گروه نرم افزاری آسمان

صفحه اصلی
کتابخانه
شاهنامه فردوسی
جلد پنجم
لطیف کنایته و ظریف تعریضه







اشارة
الکنایۀ بمعنی الستر، تقول: کنیت الشیء إذا سترته. و منه الکنیۀ، لستر اسمه تفخیما لمقامه.
.«1» قال السکاکی: هی ترك التصریح بذکر الشیء إلی ذکر ما یلزمه لینتقل منه إلی ملزومه
صفحۀ 217 من 334
قال ابن الأثیر: الکنایۀ إذا وردت تجاذبها جانبا حقیقۀ و مجاز، و جاز حملها علی الجانبین معا. أ لا تري أنّ اللمس فی قوله تعالی: أَوْ
کنایۀ عن الجماع، یجوز حمله علی الحقیقۀ و علی المجاز. و کل منهما یصحّ به المعنی و لا یختلّ. لأنّ اللمس «2» لامَسْتُمُ النِّساءَ
خارجا لازم الجماع لا محالۀ.
و الفرق بینها و بین التعریض: أنّ التعریض هو اللفظ الدالّ علی الشیء من طریق المفهوم و إن لم یکن من لوازمه. کما إذا قلت لمن
تتوقع صلته: و اللّه إنی لمحتاج. فإنه تعریض بالطلب، و لیس موضوعا له لا حقیقۀ و لا مجازا. بخلاف دلالۀ اللمس علی الجماع دلالۀ
باللازم علی الملزوم. و من ثمّ کان التعریض أخفی من الکنایۀ، و أبرع منها إذا وقع موقعه، لأنّ دلالۀ الکنایۀ لفظیۀ (دلالۀ ( 1) مفتاح
. العلوم: ص 189
. 2) النساء: 43 ، المائدة: 6 )
ص: 417
الاشارة) و دلالۀ التعریض عقلیۀ، یجب أن یتنبّه لها العقل، لا بالوضع الحقیقی و لا المجازي. و إنما سمّی تعریضا لأنّ المعنی منه یفهم
و للناس فی الفرق بین الکنایۀ و التعریض عبارات متقاربۀ: «1» من عرضه أي من جانبه، و عرض کل شیء جانبه
فقال الزمخشري: الکنایۀ ذکر الشیء بغیر لفظه الموضوع له. و التعریض أن یذکر شیئا یدلّ به علی شیء لم یذکره.
و قال ابن الأثیر: الکنایۀ ما دلّ علی معنی یجوز حمله علی الحقیقۀ و المجاز بوصف جامع بینهما. و التعریض: اللفظ الدالّ علی معنی
لا من جهۀ الوضع الحقیقی أو المجازي، کقول من یتوقّع صلۀ: و اللّه إنی لمحتاج، فانه تعریض بالطلب، مع أنه لم یوضع له لا حقیقۀ و
لا مجازا، و إنما فهم من عرض اللفظ، أي جانبه.
:« الإغریض فی الفرق بین الکنایۀ و التعریض » و قال السبکی فی کتاب
الکنایۀ لفظ استعمل فی معناه مرادا منه لازم المعنی، فهو بحسب استعمال اللفظ فی المعنی حقیقۀ، و التجوّز فی إرادة إفادة ما لم
یوضع له، و قد لا یراد منها المعنی، بل یعبّر بالملزوم عن اللازم، و هی حینئذ مجاز.
فانّه لم یقصد إفادة ذلک، لأنّه معلوم، بل إفادة لازمه، و هو أنهم یردونها و یجدون حرّها إن «2» و من أمثلته: قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَ دُّ حَ  را
لم یجاهدوا.
نسب الفعل إلی کبر الأصنام المتّخذة آلهۀ، «3» و أمّا التعریض فهو لفظ استعمل فی معناه للتلویح بغیره، نحو: بَلْ فَعَلَهُ کَبِیرُهُمْ هذا
. کأنه غضب أن ( 1) المثل السائر: ج 3 ص 52 و 56
. 2) التوبۀ: 81 )
. 3) الأنبیاء: 63 )
ص: 418
تعبد الصغار معه، تلویحا لعابدیها بأنّها لا تصلح أن تکون آلهۀ، لما یعلمون- إذا نظروا بعقولهم- من عجز کبیرها عن ذلک الفعل، و
الإله لا یکون عاجزا، فهو حقیقۀ أبدا.
و قال السکاکی: التعریض ما سیق لأجل موصوف غیر مذکور، و منه أن یخاطب واحد و یراد غیره. و سمّی به لأنّه أمیل الکلام إلی
.«1» جانب مشارا به إلی آخر، یقال: نظر إلیه یعرض وجهه، أي جانبه
أي محمّد (صلّی اللّه علیه و آله و سلّم) إعلاء «2» قال الطیّبی: و ذاك یفعل إمّا لتنویه جانب الموصوف، و منه: وَ رَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ
أي و مالکم لا «3» لقدره، أي أنّه العلم الذي لا یشتبه. و إمّا للتلطّف به و احترازا عن المخاشنۀ، نحو: وَ ما لِیَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِی
و وجه حسنه إسماع من یقصد خطابه الحقّ علی وجه یمنع «4» تعبدون، بدلیل قوله: وَ إِلَیْهِ تُرْجَعُونَ و کذا قوله: أَ أَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَۀً
غضبه، إذ لم یصرّح بنسبته للباطل، و الإعانۀ علی قبوله، إذ لم یرد له إلّا ما أراد لنفسه.
صفحۀ 218 من 334
خوطب النبیّ (صلّی اللّه علیه و آله و سلّم) و «5» و إمّا لاستدراج الخصم إلی الإذعان و التسلیم، و منه: لَئِنْ أَشْرَکْتَ لَیَحْبَطَنَّ عَمَلُکَ
ارید غیره، لاستحالۀ الشرك علیه شرعا.
. فإنّه تعریض بذمّ الکفّار ( 1) معترك الاقران: ج 1 ص 292 ،«6» و إمّا للذمّ، نحو: إِنَّما یَتَذَکَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ
. 2) البقرة: 253 )
. 3) یس: 22 )
. 4) یس: 23 )
. 5) الزمر: 65 )
. 6) الرعد: 19 و الزمر: 9 )
ص: 419
فإنّ سؤالها لإهانۀ «1» و إنّهم فی حکم البهائم الذین لا یتذکّرون و إمّا للإهانۀ و التوبیخ، نحو: وَ إِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ. بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ
قاتلها و توبیخه.
قال السبکی: التعریض قسمان:
قسم یراد به معناه الحقیقی، و یشار به إلی المعنی الآخر المقصود کما تقدّم.
و قد جعل السکاکی «3» «2» و قسم لا یراد، بل یضرب مثلا للمعنی الذي هو مقصود التعریض، کقول إبراهیم: بَلْ فَعَلَهُ کَبِیرُهُمْ هذا
التعریض قسما من الکنایۀ، إذ جعلها تعریضا و تلویحا و رمزا و ایماء و إشارة. قال: متی کانت الکنایۀ عرضیۀ، کقولک: المؤمن لا
یؤذي أخاه المسلم، تعریضا بمن یتصدّي لایذاء المؤمنین بأنه لیس بمؤمن، فهذه کان إطلاق اسم التعریض علیها مناسبا.
و « کثیر الرماد » و إذا لم تکن الکنایۀ عرضیۀ نظر، فإن کانت مسافۀ بینها و بین المکنّی عنه مسافۀ متباعدة لتوسّط لوازم کثیرة کما فی
أشباهه کان إطلاق اسم التلویح علیها مناسبا، لأنّ التلویح هو أن تشیر إلی غیرك عن بعد.
کان إطلاق اسم الرمز علیها « عریض الوسادة » و « عریض القفا » و إن کانت ذات مسافۀ قریبۀ بقلّۀ اللوازم لکن مع نوع خفاء مثل قولهم
مناسبا.
لأنّ الرمز هو أن تشیر إلی قریب منک علی سبیل الخفیۀ.
. 1) التکویر: 8 و 9 ) «4» و إن کانت لا خفاء فیها کان إطلاق اسم الایماء و الإشارة علیها مناسبا
. 2) الأنبیاء: 63 )
. 3) معترك الاقران: ج 1 ص 293 )
. 4) مفتاح العلوم: ص 190 و 194 )
ص: 420
حیث نفیت عنه القبیح بأحسن وجه. لأنه إذا نفاه عمّن « مثلک لا یبخل » فی قولک « مثل » و من لطیف الکنایۀ و حسنها ما یأتی بلفظۀ
یماثله فقد نفاه عنه لا محالۀ، إذ هو بنفی ذلک عنه أجدر، و إلّا لم یکونا متماثلین.
و إن کان اللّه سبحانه لا مثل له، لکنه کنایۀ عن نفی مشابهته لشیء بأبلغ وجه. لأنّ مثله «1» و علیه ورد قوله تعالی: لَیْسَ کَمِثْلِهِ شَیْءٌ
تعالی- فرضا- إذا لم یکن له مثیل فهو تعالی أولی بأن لا یکون له نظیر.
فإنه کنّی عن الغیبۀ بأکل الإنسان لحم إنسان .«2» و من ذلک أیضا قوله تعالی: أَ یُحِبُّ أَحَ دُکُمْ أَنْ یَأْکُلَ لَحْمَ أَخِیهِ مَیْتاً فَکَرِهْتُمُوهُ
آخر مثله، و لم یقتصر علی ذلک حتی جعله میّتا، ثمّ جعل ما هو فی الغایۀ من الکراهۀ موصولا بالمحبّۀ. قال ابن الأثیر: فهذه أربع
دلالات واقعۀ علی ما قصدت له مطابقۀ للمعنی الذي وردت من أجله.
صفحۀ 219 من 334
أمّا جعل الغیبۀ کأکل لحوم الناس فهو شدید المناسبۀ جدّا، لأنّها ذکر مثالب المغتاب و الوقوع فی عرضه، بل و الحطّ من کرامته بما
یهدم شخصیته و إیجاب النفرة منه. الأمر الذي یستدعی إبعاده عن الحیاة العامّۀ، و لا سیّما الحیاة العملیۀ المبتنیۀ علی تبادل الثقۀ بین
أفراد الجامعۀ، فلا یعتمده إنسان و لا یثق به غیره بعد حصول هذه النفرة بینه و بین سائر الناس. کل ذلک مغبّۀ فضحه بین الناس بسبب
إبداء معایبه الخفیۀ بالاغتیاب، فکان کعضو أشلّ لهیکل الجامعۀ الانسانیۀ، و کان موته و شلله حینذاك سواء. إذا فالذي یفعله المغتاب
. یشبه تماما بمن قتل أخاه (العضو الفعّال الآخر للجامعۀ) و اقتات علی ( 1) الشوري: 11
. 2) الحجرات: 12 )
ص: 421
لحمه میتا. فما أشدّ کراهته؟ فهذا مثله.
فالغیبۀ إذا شاعت فإنما هی قتل النفوس و تمزیق أعراضهم و هدم شخصیّاتهم. فما أبشعها و أشنعها من صنیع مکروه و مرفوض لدي
العقلاء!! فانظر أیّها المتأمّل إلی هذه الکنایۀ العجیبۀ تجدها من أبدع الکنایات و أعجبها و أدقّها تعبیرا و وفاء بمقصود الکلام.
قال ابن الأثیر: و الأرض التی لم یطئوها کنایۀ عن .«1» و کذلک قوله تعالی: وَ أَوْرَثَکُمْ أَرْضَهُمْ وَ دِیارَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ وَ أَرْضاً لَمْ تَطَؤُها
مناکح النساء، و هو من حسن الکنایۀ و نادرها.
و قوله تعالی: أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِیَۀٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّیْلُ زَبَداً رابِیاً وَ مِمَّا یُوقِدُونَ عَلَیْهِ فِی النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْیَۀٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ
.«2» مِثْلُهُ کَذلِکَ یَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَ الْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَیَذْهَبُ جُفاءً وَ أَمَّا ما یَنْفَعُ النَّاسَ فَیَمْکُثُ فِی الْأَرْضِ کَذلِکَ یَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ
قال الزمخشري: هذا مثل ضربه اللّه للحقّ و أهله و الباطل و حزبه، فکنّی بالماء عن العلم، و بالأودیۀ عن القلوب، و بالزبد عن الضلال.
إنّ الماء لینزل من السماء فتسیل به الأودیۀ، کلّ بقدرها، و هو بطبیعۀ جریه و سیلانه یلمّ فی طریقه غثاء، فیطفو علی وجهه صورة زبد،
هی الشکوك الحاصلۀ من تضارب الآراء و حجاج الخصوم. حتی لیحجب الماء أي الحقیقۀ فی بعض الأحیان. و قد یکون هذا الزبد
نافش راب منتفخ، لیبدو فخیما فی شکله و ظاهر صورته، و لکنه فی حقیقته غثاء. أمّا الماء من تحته فهو سارب ساکن ( 1) الأحزاب:
.27
. 2) الرعد: 17 )
ص: 422
هادئ، لکنه الماء الحامل للخیر و الحیاة، و سرعان ما تنصع حقیقته الصافیۀ، و ینقشع عن وجهه غبار الأوهام. کذلک یتصوّر فی
المعادن و الفلزّات التی تذاب لتصاغ منها الحلی أو الأوانی و الآلات النافعۀ للحیاة، فإنها عند الذوبان یطفو علیها الخبث و قد یحجب
وجه الفلز الأصیل، و لکنه بعد خبث یذهب جفاء، و یبقی الفلز نقیّا خالصا نافعا فی الحیاة.
و ذلک مثل الحقّ یجلّله غبار الباطل أحیانا، لکنه لا یلبث أن ینصدع فتتجلّی الحقیقۀ ناصعۀ بیضاء لامعۀ. بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَی الْباطِلِ
.«2» تصف ألسنتکم الکذب من تشکیک و أوهام و خرافات «1» فَیَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ و من ثم عقّبه بقوله: وَ لَکُمُ الْوَیْلُ مِمَّا تَصِفُونَ
حکمۀ الکنایۀ و فوائدها
للکنایۀ فوائد و حکم ذکرها أرباب البیان، و لخّصها جلال الدین السیوطی فی ستۀ وجوه:
کنایۀ عن آدم (علیه السّلام) فإنّ إخراج الذرّ الکثیر من «3» أحدها: التنبیه علی عظم القدرة، نحو: هُوَ الَّذِي خَلَقَکُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ
أصل واحد دلیل علی عظمۀ الصانع تعالی و قدرته الخارقۀ. فلو کان صرّح باسمه (علیه السّلام) لکانت إشادة بشأنه بالذات.
. ثانیها: ترك اللفظ إلی ما هو أجمل، نحو: ( 1) الأنبیاء: 18
صفحۀ 220 من 334
. 2) الکشاف: ج 2 ص 523 ، المثل السائر: ج 3 ص 63 ، فی ظلال القرآن: ج 5 ص 85 )
. 3) الأعراف: 189 )
ص: 423
فکنّی بالنعجۀ عن المرأة کعادة العرب فی ذلک، لأنّ ترك التصریح بذکر .«1» إِنَّ هذا أَخِی لَهُ تِسْعٌ وَ تِسْعُونَ نَعْجَۀً وَ لِیَ نَعْجَۀٌ واحِدَةٌ
باسمها علی خلاف عادة « مریم » المرأة أجمل منه، و لهذا لم تذکر فی القرآن امرأة باسمها إلّا مریم. قال السهیلی: و إنما ذکرت
الفصحاء لنکتۀ، و هی أنّ الملوك و الأشراف لا یذکرون حرائرهم فی ملأ، و لا یبتذلون أسماءهنّ، بل یکنّون عن الزوجۀ بالفرس و
العیال و نحو ذلک، فاذا ذکروا الإماء لم یکنّوا عنهنّ و لم یصونوا أسماءهنّ عن الذکر، فلمّا قالت النصاري فی مریم ما قالوا صرّح اللّه
باسمها، و لو لم یکن تأکیدا للعبودیۀ التی هی صفۀ لها و تأکیدا لأنّ عیسی لا أب له و إلّا لنسب إلیه.
ثالثها: أن یکون فی التصریح ممّا یستقبح ذکره، ککنایۀ اللّه عن الجماع بالملامسۀ و المباشرة و الإفضاء و الرفث و الدخول و السرّ فی
.«3» و الغشیان فی قوله: فَلَمَّا تَغَشَّاها .«2» قوله: وَ لکِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِ  را
أخرج ابن أبی حاتم عن ابن عباس، قال: المباشرة الجماع، و لکنّ اللّه یکنی. و أخرج عنه، قال: إنّ اللّه کریم یکنّی ما شاء، و إنّ
الرفث هو الجماع.
و عنه أو عن المعانقۀ باللباس فی قوله: هُنَّ لِباسٌ لَکُمْ وَ .«4» و کنّی عن طلبه بالمراودة فی قوله: وَ راوَدَتْهُ الَّتِی هُوَ فِی بَیْتِها عَنْ نَفْسِهِ
.«6» و بالحرث فی قوله: نِساؤُکُمْ حَرْثٌ لَکُمْ «5» أَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ
. و أصله المکان المطمئنّ من الأرض. ( 1) ص: 23 ،«7» و کنّی عن البول و نحوه بالغائط فی قوله أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْکُمْ مِنَ الْغائِطِ
. 2) البقرة: 235 )
. 3) الأعراف: 189 )
. 4) یوسف: 23 )
. 5) البقرة: 187 )
. 6) البقرة: 223 )
. 7) البقرة: 223 )
. 7) المائدة: 6 )
ص: 424
.«1» و کنّی عن قضاء الحاجۀ بأکل الطعام فی قوله فی مریم و ابنها: کانا یَأْکُلانِ الطَّعامَ
.«2» و کنّی عن الأستاه بالأدبار فی قوله: یَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَ أَدْبارَهُمْ
أخرج ابن أبی حاتم عن مجاهد فی هذه الآیۀ قال: یعنی أستاههم، و لکنّ اللّه یکنّی ما شاء.
.«3» و أورد علی ذلک التصریح بالفرج فی قوله: وَ الَّتِی أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِیها مِنْ رُوحِنا
.«4» و قوله: الَّتِی أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِیهِ مِنْ رُوحِنا
و اجیب بأنّ المراد به فرج القمیص، و التعبیر به من لطیف الکنایات و أحسنها، أي لم یعلّق ثوبها ریبۀ، فهی طاهرة الثوب، کما یقال:
و کیف یظنّ أنّ نفخ جبریل وقع فی فرجها، و إنما نفخ فی .«5» نقیّ الثوب، و عفیف الذیل- کنایۀ عن العفّۀ، و منه: وَ ثِیابَکَ فَطَهِّرْ
.«6» جیب درعها. و نظیره أیضا وَ لا یَأْتِینَ بِبُهْتانٍ یَفْتَرِینَهُ بَیْنَ أَیْدِیهِنَّ وَ أَرْجُلِهِنَّ
قال الفرّاء: و الفرج هاهنا: جیب درعها، و ذکر أنّ جبرائیل (علیه السّلام) نفخ فی جیبها. و کل ما کان فی الدرع من خرق أو غیره یقع
. 1) المائدة: 75 ) .«8» یعنی السماء من فطور و لا صدوع «7» علیه اسم الفرج. قال اللّه تعالی: وَ ما لَها مِنْ فُرُوجٍ
صفحۀ 221 من 334
. 2) الأنفال: 50 )
. 3) الأنبیاء: 91 )
. 4) التحریم: 12 )
. 5) المدثر: 4 )
. 6) الممتحنۀ: 13 )
. 7) ق: 6 )
. 8) معانی القرآن: ج 3 ص 169 )
ص: 425
و درع المرأة قمیصها. و هکذا قال السید شبّر و الطبرسی و «1» و قال فی موضع آخر: ذکر المفسّرون أنه جیب درعها، و منه نفخ فیها
.«2» غیرهما من أعلام المفسّرین
قال الراغب: الفرج و الفرجۀ: الشقّ بین الشیئین کفرجۀ الحائط.
و الفرج: ما بین الرجلین. و کنّی به عن السوأة، و کثر استعماله حتی صار کالصریح فیه.
قلت: و إطلاق الفرج علی الجیب باعتبار أنه الشقّ الواقع بین جانبی الدرع، إطلاق علی أصله، و کنّی به عن السوأة، سواء أ کانت من
قُلْ لِلْمُؤْمِنِینَ یَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَ یَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ... .«3» الرجال أم من النساء، کما فی قوله تعالی: وَ الَّذِینَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ
.«5» وَ الْحافِظِینَ فُرُوجَهُمْ وَ الْحافِظاتِ «4» وَ قُلْ لِلْمُؤْمِناتِ یَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَ یَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ
و حفظ الفرج کنایۀ عن التحفّظ علی طهارته و أن لا یتدنّس باقتراب قذارة أو یتلوّث بارتکاب حرام، کنایۀ بلیغۀ عن التعفّف و
اجتناب الفحشاء.
و علیه فحصانۀ الفرج کنایۀ عن طهارة الذیل، الذي هو بدوره کنایۀ عن التعفّف، و من ثمّ فهی کنایۀ عن کنایۀ نظیر المجاز عن
. المجاز. فتدبّر، فانّه لطیف. ( 1) معانی القرآن: ج 2 ص 210
. 2) مجمع البیان: ج 7 ص 62 و ج 10 ص 319 ، تفسیر شبّر: ص 321 و ص 524 )
. 3) المؤمنون: 5، المعارج: 29 )
. 4) النور: 30 و 31 )
. 5) الأحزاب: 35 )
ص: 426
کنّی عن النساء بأنهنّ ینشأن .«1» رابعها: قصد المبالغۀ و البلاغۀ، نحو قوله تعالی: أَ وَ مَنْ یُنَشَّؤُا فِی الْحِلْیَۀِ وَ هُوَ فِی الْخِصامِ غَیْرُ مُبِینٍ
فی الترفّه و التزیّن و الشواغل عن النظر فی الامور و دقیق المعانی. و لو أتی بلفظ النساء لم یشعر بذلک، و المراد نفی ذلک عن
کنایۀ عن سعۀ جوده و کرمه جدّا. «2» الملائکۀ. و قوله: بَلْ یَداهُ مَبْسُوطَتانِ
أي «4» فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ لَنْ تَفْعَلُوا .«3» نحو: لَبِئْسَ ما کانُوا یَفْعَلُونَ ،« فعل » خامسها: قصد الاختصار، کالکنایۀ عن ألفاظ متعدّدة بلفظ
فإن لم تأتوا بسورة من مثله.
أي جهنّمی مصیره إلی اللهب. و قوله: حَمَّالَۀَ الْحَطَبِ. فِی جِیدِها «5» سادسها: التنبیه علی مصیره، نحو قوله تعالی: تَبَّتْ یَدا أَبِی لَهَبٍ
حَبْلٌ أي نمّامۀ، مصیرها إلی أن تکون حطبا لجهنم فی جیدها غلّ.
إنما یعدل عن الصریح إلی الکنایۀ لنکتۀ، کالایضاح أو بیان حال الموصوف، أو مقدار :«6» قال بدر الدین ابن مالک فی المصباح
حاله، أو القصد إلی المدح أو الذم، أو الاختصار، أو الستر، أو الصیانۀ، أو التعمیۀ، أو الألغاز، أو التعبیر عن الصعب بالسهل، أو عن
صفحۀ 222 من 334
. المعنی القبیح باللفظ الحسن. ( 1) الزخرف: 18
. 2) المائدة: 64 )
. 3) المائدة: 79 )
. 4) البقرة: 24 )
. 5) المسد: 1 )
6) المصباح فی تلخیص المفتاح لمحمد بن عبد اللّه بن مالک الملقّب بابن الناظم أحد أئمۀ النحو و المعانی و البدیع، توفی سنۀ 686 )
.(41 - (طبقات الشافعیۀ: 5
ص: 427
و استنبط الزمخشري نوعا من الکنایۀ غریبا، و هو أن تعمد إلی جملۀ معناها علی خلاف الظاهر، فتأخذ الخلاصۀ من غیر اعتبار
إنه کنایۀ عن الملک، فإنّ .«1» مفرداتها بالحقیقۀ و المجاز، فتعبّر بها عن المقصود، کما تقول فی نحو: الرَّحْمنُ عَلَی الْعَرْشِ اسْتَوي
الاستواء علی السریر لا یکون إلّا مع الملک، فجعل کنایۀ عنه. و کذا قوله: وَ الْأَرْضُ جَمِیعاً قَبْ َ ض تُهُ یَوْمَ الْقِیامَۀِ وَ السَّماواتُ مَطْوِیَّاتٌ
.«3» کنایۀ عن عظمته و جلاله من غیر ذهاب بالقبض و الیمین إلی جهتی الحقیقۀ و المجاز «2» بِیَمِینِهِ
قال- عند الکلام عن آیۀ طه-: لمّا کان الاستواء علی العرش- و هو سریر الملک- ممّا یردف الملک جعلوه کنایۀ عن الملک، فقالوا:
فی « ملک » استوي فلان علی العرش، یریدون: ملک، و إن لم یقعد علی السریر البتۀ. و قالوه أیضا لشهرته فی ذلک المعنی و مساواته
مؤدّاه، و إن کان أشرح و أبسط و أدلّ علی صورة الأمر.
قال: و نحوه قولک: ید فلان مبسوطۀ، و ید فلان مغلولۀ، بمعنی أنه جواد أو بخیل، لا فرق بین العبارتین إلّا فیما قلت، حتی أنّ من لم
یبسط یده قطّ بالنوال أو لم تکن له ید رأسا قیل فیه: یده مبسوطۀ، لمساواته عندهم مع قولهم: هو جواد ... و منه قوله عزّ و جلّ: وَ
أي هو بخیل. «4» قالَتِ الْیَهُودُ یَدُ اللَّهِ مَغْلُولَۀٌ
أي هو جواد ... من غیر تصوّر ید و لا غلّ و لا بسط. «4» بَلْ یَداهُ مَبْسُوطَتانِ
. 1) طه: 5 ) .«6» قال: و التفسیر بالنعمۀ، و التمحّل للتثنیۀ، من ضیق العطن، و المسافرة عن علم البیان مسیرة أعوام
. 2) الزمر: 67 )
.146 - 3) الاتقان: ج 3 ص 145 )
. 4) المائدة: 64 )
. 6) الکشاف: ج 3 ص 52 )
ص: 428
و قال عن آیۀ الزمر: و الغرض من هذا الکلام- إذا أخذته کما هو بجملته و مجموعه- تصویر عظمته و التوقیف علی کنه جلاله لا
غیر، من غیر ذهاب بالقبضۀ و لا بالیمین إلی جهۀ حقیقۀ أو جهۀ مجاز.
قال: و زبدة الآیۀ و خلاصتها هی الدلالۀ علی القدرة الباهرة، و أنّ الأفعال العظام التی تتحیّر فیها الأفهام و الأذهان و لا تکتنهها الأوهام
هیّنۀ علیه، هوانا لا یوصل السامع إلی الوقوف علیه، إلّا إجراء العبارة فی مثل هذه الطریقۀ من التخییل.
قال: و لا تري بابا فی علم البیان أدقّ و لا أرقّ و لا ألطف من هذا الباب، و لا أنفع و أعون علی تعاطی تأویل المشتبهات من کلام اللّه
تخییلات، قد زلّت فیها الأقدام قدیما. و ما أتی الزالّون «1» تعالی فی القرآن و سائر الکتب السماویۀ و کلام الأنبیاء، فإنّ أکثره و علیّته
إلّا من قلّۀ عنایتهم بالبحث و التنقیر، حتی یعلموا أنّ فی عداد العلوم الدقیقۀ علما لو قدّروه حقّ قدره، لما خفی علیهم أنّ العلوم کلها
مفتقرة إلیه و عیال علیه. إذ لا یحلّ عقدها الموربۀ و لا یفکّ قیودها المکربۀ إلّا هو. و کم آیۀ من آیات التنزیل و حدیث من أحادیث
صفحۀ 223 من 334
الرسول قد ضیم و سیم الخسف بالتأویلات الغثّۀ و الوجوه الرثّۀ، لأنّ من تأوّل لیس من هذا العلم فی عیر و لا نفیر، و لا یعرف قبیلا
.«2» منه من دبیر
و من أنواع البدیع التی تشبه الکنایۀ: الأرداف، و هو أن یرید المتکلّم معنی فلا یعبّر عنه بلفظه الموضوع له، و لا بدلالۀ الاشارة، بل
و الأصل: و هلک من قضی اللّه هلاکه، و نجا من ( 1) أي معظمه. .«3» بلفظ یرادفه، کقوله تعالی: وَ قُضِیَ الْأَمْرُ
.143 - 2) الکشاف: ج 4 ص 142 )
. 3) البقرة: 210 )
ص: 429
قضی اللّه نجاته. و عدل عن لفظ ذلک إلی الارداف، لما فیه من الإیجاز و التنبیه علی أنّ هلاك الهالک و نجاة الناجی کان بأمر آمر
مطاع، و قضاء من لا یردّ قضاؤه، و الأمر یستلزم آمرا، فقضاؤه یدلّ علی قدرة الآمر به و قهره، و أنّ الخوف من عقابه و رجاء ثوابه
یحضّان علی طاعۀ الآمر، و لا یحصل ذلک کله من اللفظ الخاص.
حقیقۀ ذلک: جلست، فعدل عن اللفظ الخاصّ بالمعنی إلی مرادفه، لما فی الاستواء من الإشعار .«1» و کذا قوله: اسْتَوَتْ عَلَی الْجُودِيِّ
بجلوس متمکّن لا زیغ فیه و لا میل، و هذا لا یحصل من لفظ الجلوس.
أي عفیفات، و عدل عنه للدلالۀ علی أنّهن مع العفّۀ لا تطمح أعینهنّ إلی غیر أزواجهنّ، و لا ،«2» و کذا قوله: فِیهِنَّ قاصِ راتُ الطَّرْفِ
یشتهینّ غیرهم. و لا یؤخذ ذلک من لفظ العفّۀ. قال بعضهم: و الفرق بین الکنایۀ و الارداف أنّ الکنایۀ انتقال من لازم إلی ملزوم، و
الارداف من مذکور إلی متروك.
مع أنّ « بالسؤي » عدل فی الجملۀ الاولی عن قوله «3» و من أمثلته أیضا: لِیَجْزِيَ الَّذِینَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَ یَجْزِيَ الَّذِینَ أَحْسَ نُوا بِالْحُسْنَی
. 1) هود: 44 ) .«4» تأدّبا أن یضاف السوء إلی اللّه تعالی « بما عملوا » فیه مطابقۀ کالجملۀ الثانیۀ إلی
. 2) الرحمن: 56 )
. 3) النجم: 31 )
.291 - 4) معترك الاقران: ج 1 ص 287 )
ص: 430
-10 طرائف و ظرائف (من روائع بدائع کلام اللّه المجید)
اشارة
هناك الکثیر من لطائف البدائع، ترفع من شأن الکلام و تعظم من قدره، و لیست مجرّد تحسین لفظ أو تحبیر عبارة. بل هی من عمود
البلاغۀ و أسّ الفصاحۀ و من براعۀ البیان. و قد ملئ القرآن من باقات زهورها و طاقات بدورها، و هی إلی الازدیاد کلّما امعن النظر و
دقّق الفکر، أقرب منها إلی الانتهاء. و کان ینبغی التنبّه لطرائفها و التطلّع علی ظرائفها، تتمیما لفوائد سبقت و تکمیلا لفرائد سلفت،
کانت لا یحصی عددها و لا ینتهی أمدها. فللّه درّه من عظیم کلام و فخیم بیان، و إلیک منها نماذج:
الالتفات أو التفنّن فی اسلوب الخطاب أم هو کرّ و فرّ و تجوال، و مداورة بعنان الکلام بل هی فروسۀ العربیۀ و شجاعۀ البیان
صفحۀ 224 من 334
قال ابن الأثیر: هو خلاصۀ علم البیان التی حولها یدندن، و إلیها تستند البلاغۀ، و عنها یعنعن. و حقیقته مأخوذة من التفاوت الانسان
یمنۀ و یسرة، فهو
ص: 431
لأنّ الشجاعۀ هی الإقدام. و ذاك أنّ الرجل « شجاعۀ العربیۀ » یقبل بوجهه إلی جهۀ تارة، و إلی جهۀ اخري تارة اخري. و یسمّی أیضا
الشجاع یرکب ما لا یستطیعه غیره، و یتورّد ما لا یتورّده غیره. و کذلک الالتفات فی الکلام، فإنّ اللّغۀ العربیۀ- علی وفرة تفانینها وسعۀ
قال السکاکی: و العرب یستکثرون من الالتفات، و یرون الکلام «1» مفاهیمها- تحتمل هذا التجوال ما لا تحتمله غیرها من سائر اللغات
إن انتقل من اسلوب إلی اسلوب کان أدخل فی القبول عند السامع، و أحسن تطریۀ لنشاطه، و أملأ باستدرار إصغائه. قال: و أجدر بهم
فی هذا الصنیع، أ فتراهم یحسنون قري الاضیاف بتلوین الطعام، و هم أبدان و أشباح، و لا یحسنون قري النفوس و الأرواح بتنویع
الکلام؟! و الکلام کلّما ازداد طراوة کان أشهی غذاء للروح و أطیب قري للقلوب.
قال: و هذا الوجه- و هو تطریۀ نشاط السامع- هو فائدته العامّۀ. و قد یختصّ مواقعه بلطائف معان، قلّما تتّضح إلّا لأفراد بلغائهم أو
للحذّاق المهرة فی هذا الفنّ و العلماء النحاریر. و متی اختصّ موقعه بشیء من اللطائف و الظرائف کساه فضل بهاء و رونق و رواء، و
أورث السامع زیادة هزّة و نشاط، و وجد عنده من القبول أرفع منزلۀ و محل، إن کان ممّن یسمع و یعقل، و قلیل ما هم، أم تحسب أنّ
أکثرهم یسمعون أو یعقلون؟! قال: و لأمر ما وقع التباین الخارج عن الحدّ بین مفسّر لکلام ربّ العزّة و مفسّر، و بین غوّاص فی بحر
فوائده و غوّاص.
و کل التفات وارد فی القرآن الکریم، متی صرت من سامعیه، عرّفک ما موقعه. و إذا أحببت أن تصیر من سامعیه فأصخ ثمّ، لیتلی
. علیک: ( 1) المثل السائر: ج 2 ص 170
ص: 432
قوله تعالی: إِیَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِیَّاكَ نَسْتَعِینُ أ لیس إذا أخذت فی تعدید نعم المولی- جلّت آلاؤه- مستحضرا لتفاصیلها أحسست من
نفسک بحالۀ کأنها تطالبک بالإقبال علی منعمک، و تزین لک ذلک، و لا تزال تتزاید ما دمت فی تعدید نعمه، حتی تحملک من
حیث لا تدري علی أن تجدك و أنت معه فی الکلام تثنی علیه و تدعو له و تقول: بأيّ لسان أشکر صنائعک الروائع، و بأیّۀ عبارة
و ما جري هذا المجري ... ،«1» أحصر عوارفک الذوارف
و إذا وعیت ما قصصته علیک و تأمّلت الالتفات فی إِیَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِیَّاكَ نَسْتَعِینُ- بعد تلاوتک لما قبله الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِینَ.
و طبّق «2» الرَّحْمنِ الرَّحِیمِ مالِکِ یَوْمِ الدِّینِ- علی الوجه الذي یجب، و هو التأمّل القلبی، علمت ما موقعه، و کیف أصاب المحزّ
مفصل البلاغۀ، لکونه منبّها علی أنّ العبد المنعم علیه بتلک النعم العظام إذا قدّر أنه ماثل بین یدي مولاه، من حقّه إذا أخذ فی القراءة
أن تکون قراءته علی وجه یجد معها من نفسه شبه محرّك إلی الإقبال علی من یحمده، صائر فی أثناء القراءة إلی حالۀ شبیهۀ بإیجاب
ذلک عند ختم الصفات، مستدعیۀ انطباقها علی المنزّل علی ما هو علیه، و إلّا لم یکن قارئا.
و الوجه: هو إذا افتتح التحمید أن یکون افتتاحه عن قلب حاضر و نفس ذاکرة، یعقل فیم هو؟ و عند من هو؟ فإذا انتقل من التحمید
أ فلا ،« الحمد للّه » إلی الصفات، أن یکون انتقاله محذوّا به حذو الافتتاح، فإنه متی افتتح علی الوجه الذي عرفت، مجریا علی لسانه
یجد محرّکا للإقبال علی من یحمد، من معبود عظیم الشأن، حقیق بالثناء و الشکر، مستحقّ للعباد؟ ( 1) العوارف: جمع العارفۀ بمعنی
المعروف. و الذوارف: جمع الذارفۀ، من الذرف بمعنی الانصباب
2) الحزّ: القطع. و المحزّ: موضع الذبح. )
ص: 433
واصفا له بکونه ربّا مالکا للخلق، لا یخرج شیء من ملکوته و ربوبیّته، أ فتري « ربّ العالمین » : ثمّ إذا انتقل علی نحو الافتتاح إلی قوله
صفحۀ 225 من 334
ذلک المحرّك لا یقوي؟
ثم إذا قال: الرَّحْمنِ الرَّحِیمِ فوصفه بما ینبئ عن کونه منعما علی الخلق بأنواع النعم، جلائلها و دقائقها، مصیبا إیّاهم بکل معروف، أ
فلا تتضاعف قوّة ذلک المحرّك عند هذا؟
ثمّ إذا آل الأمر إلی خاتمۀ هذه الصفات، و هی مالِکِ یَوْمِ الدِّینِ المنادیۀ علی کونه مالکا للأمر کله فی العاقبۀ یوم الحشر للثواب و
العقاب، فما ظنّک بذلک المحرّك، أ یسع ذهنک أن لا یصیر إلی حدّ یوجب علیک الإقبال علی مولی، شأن نفسک معه منذ افتتحت
التحمید ما تصوّرت، فتستطیع أن لا تقول:
فلا ینطبق علی المنزل علی ما هو علیه؟ « إیّاك، یا من هذه صفاته، نعبد و نستعین، لا غیرك »
و أخیرا قال: و اعلم أنّ لطائف الاعتبارات المرفوعۀ لک فی هذا الفن، من تلک المطامح النازحۀ من مقامک لا تثبتها حقّ إثباتها، ما
لم تمتر بصیرتک فی الاستشراف لما هنالک أطیاء المجهود، و لم تختلف فی السعی للبحث عنها وراءك کل حدّ معهود ... و علماء
هذه الطبقۀ الناظرة بأنواع البصائر، المخصوصون بالعنایۀ الإلهیۀ المدلّلون بما اوتوا من الحکمۀ و فصل الخطاب.
علی أنّ کلام ربّ العزّة- و هو قرآنه الکریم و فرقانه العظیم- لم یکتس تلک الطلاوة، و لا استودع تلک الحلاوة، و ما أغدقت
(1) .«1» أسافله، و لا أثمرت أعالیه، و ما کان بحیث یعلو و لا یعلی، إلّا لانصبابه فی تلک القوالیب، و لوروده علی تلک الأسالیب
.98 - مفتاح العلوم (آخر الفن الثانی من علم المعانی) ص 95
ص: 434
و قیل- زیادة علی ما مر-: إنّ من لطائفه التنبیه علی أنّ مبتدأ الخلق الغیبۀ عنه سبحانه، و قصورهم عن محاضرته و مخاطبته، و قیام
حجاب العظمۀ علیهم، فاذا عرفوه بما هو أهله و توسّلوا للقرب بالثناء علیه، و أقرّوا له بالمحامد، و تعبّدوا له بما یلیق بهم، تقرّبا إلی
.«1» ساحۀ قدسه الکریم، فعند ذلک تأهّلوا لمخاطبته و مناجاته عن حضور، فقالوا: إیّاك نعبد، و إیّاك نستعین
حدّ الالتفات و فائدته:
هو عند الجمهور: التعبیر عنه بطریق من الطرق الثلاثۀ (التکلّم و الخطاب و الغیبۀ) بعد التعبیر عنه بطریق آخر منها. و عمّمه السکاکی
إلی کل تعبیر وقع فیما حقّه التعبیر بغیره، حسب ظاهر السیاق. کالتعبیر بالماضی فی موضع کان حقّه الاستقبال أو الحال. أو وضع
.«2» المضمر موضع المظهر أو العکس. و نحو ذلک ممّا یتحوّل وجه الکلام فجأة علی خلاف السیاق
و فائدته العامّۀ هی تطریۀ نشاط السامع و صیانته عن الملل و السآمۀ، لما جبلت النفوس علی حبّ الانتقال و تصریف الأحوال، فتملّ
من الاستمرار علی منوال واحد من وجه الکلام ... هذه هی فائدته العامّۀ الساریۀ فی جمیع موارده. و تختصّ مواضعه، کلّ بنکتۀ و
ظریفۀ زائدة، یحلو بها البیان و تهشّ إلیها النفوس و تستلذّها.
قال الزمخشري: و ذلک علی عادة افتنان العرب فی کلامهم و تصرّفهم فیه و لأنّ الکلام إذا نقل من اسلوب إلی اسلوب کان ذلک
. أحسن تطریۀ لنشاط السامع، و إیقاظا للإصغاء إلیه، من إجرائه علی اسلوب واحد. و قد تختصّ ( 1) معترك الاقران: ج 1 ص 382
. 2) أنوار الربیع: ج 1 ص 362 . و المثل السائر لابن الاثیر ج 2 ص 171 )
ص: 435
.«1» مواقعه بفوائد
و تنظّر ابن الأثیر فی هذا التبریر، قال: لأنّ الانتقال فی الکلام إذا کان لأجل تطریۀ نشاط السامع فإنّ ذلک یدلّ علی أنه یملّ من
اسلوبه فیضطرّ إلی الانتقال إلی غیره لیجد نشاطا للاستماع. و هذا قدح فی الکلام لا وصف له، إذ لو کان حسنا لما ملّ. علی أن هذا
صفحۀ 226 من 334
لو سلّم لکان فی مطنب مطوّل، لا فی مثل الالتفاتات الواقعۀ فی تعابیر موجزة و آیات قصیرة من الذکر الحکیم.
فلعلّ المقصود: هو مجرّد الانتقال من اسلوب إلی اسلوب، لیکون نفس هذا هو المطلوب لا الانتقال إلی الأحسن. الأمر الذي لیس
یذهب علی مثل الزمخشري العارف بفنون الفصاحۀ و البلاغۀ.
قال: و الوجه عندي أنّ الانتقال لا یکون إلّا لفائدة اقتضته، و تلک الفائدة أمر وراء الانتقال، و هی لا تحدّ بحدّ، و لا تضبط بضابط،
لکن یشار إلی مواضع منها، لیقاس علیها غیرها. فإنّا قد رأینا الانتقال من الغیبۀ إلی الخطاب قد استعمل لتعظیم شأن المخاطب. ثم رأینا
ذلک بعینه- و هو ضدّ الأول- قد استعمل فی الانتقال من الخطاب إلی الغیبۀ. فعلمنا أنّ الغرض الموجب لاستعمال هذا النوع من
الکلام لا یجري علی وتیرة واحدة، و إنما هو مقصور علی العنایۀ بالمعنی المقصود، و ذلک المعنی یتشعّب شعبا کثیرة لا تنحصر، و
ثم جعل یوضّح حقیقۀ ما فی هذا الباب بضرب الأمثلۀ التالیۀ: .«2» إنما یؤتی بها علی حسب الموضع الذي ترد فیه
. فأمّا الرجوع من الغیبۀ إلی الخطاب فکقوله تعالی- فی سورة الفاتحۀ-: ( 1) تفسیر الکشاف: ج 1 ص 14
. 2) المثل السائر: ج 2 ص 173 )
ص: 436
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِینَ الرَّحْمنِ الرَّحِیمِ مالِکِ یَوْمِ الدِّینِ. إِیَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِیَّاكَ نَسْتَعِینُ. اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِیمَ. صِ راطَ الَّذِینَ أَنْعَمْتَ
عَلَیْهِمْ غَیْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَیْهِمْ وَ لَا الضَّالِّینَ.
هذا رجوع من الغیبۀ إلی الخطاب. و ممّا یختصّ به هذا الکلام من الفوائد قوله: إِیَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِیَّاكَ نَسْتَعِینُ بعد قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ
الْعالَمِینَ فإنّه إنما عدل فیه من الغیبۀ إلی الخطاب لأنّ الحمد دون العبادة، أ لا تراك تحمد نظیرك و لا تعبده! فلمّا کانت الحال
و لم یقل: الحمد لک. و لمّا صار إلی العبادة- التی هی ،« الحمد للّه » : کذلک استعمل لفظ الحمد لتوسّطه مع الغیبۀ فی الخبر، فقال
أقصی الطاعات- قال: إِیَّاكَ نَعْبُدُ فخاطب بالعبادة إصراحا بها، و تقرّبا منه عزّ اسمه بالانتهاء إلی محدود منها.
و علی نحو من ذلک جاء آخر السورة، فقال: صِ راطَ الَّذِینَ أَنْعَمْتَ عَلَیْهِمْ فأصرح موضع التقرّب من اللّه بذکر نعمه، فلمّا صار إلی
ذکر الغضب جاء باللفظ منحرفا عن ذکر الغاضب، فأسند النعمۀ إلیه لفظا، و زوي عنه لفظ الغضب تحنّنا و لطفا.
فانظر إلی هذا الموضع و تناسب هذه المعانی الشریفۀ التی الأقدام لا تکاد تطأها، و الأفهام مع قربها صافحۀ عنها.
و هذه السورة قد انتقل فی أولها من الغیبۀ إلی الخطاب لتعظیم شأن المخاطب.
ثمّ انتقل فی آخرها من الخطاب إلی الغیبۀ لتلک العلّۀ بعینها، و هی تعظیم شأن المخاطب أیضا، لأنّ مخاطبۀ المولی تبارك و تعالی
بإسناد النعمۀ إلیه تعظیم لخطابه، و کذلک ترك مخاطبته بإسناد الغضب إلیه تعظیم لخطابه.
فینبغی أن یکون صاحب هذا الفنّ من الفصاحۀ و البلاغۀ عالما بوضع أنواعه فی مواضعها علی اشتباهها.
ص: 437
و هو خطاب للحاضر، بعد قوله: « لقد جئتم » : و إنّما قیل «1» و من هذا الضرب قوله تعالی: وَ قالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً. لَقَدْ جِئْتُمْ شَیْئاً إِ  دا
و هو خطاب للغائب، لفائدة لطیفۀ، و هی زیادة التسجیل علیهم بالجرأة علی اللّه سبحانه، و التعرّض لسخطه، و تنبیه لهم «... و قالوا »
علی عظم ما قالوه، کأنه یخاطب قوما حاضرین بین یدیه صاغرین منکرا علیهم و موبّخا لهم.
«... أ لم یروا » فبدأ بالغیبۀ .«2» و من هذا الباب قوله تعالی: أَ لَمْ یَرَوْا کَمْ أَهْلَکْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَکَّنَّاهُمْ فِی الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَکِّنْ لَکُمْ
قیل: لنکتۀ هی: حثّ السامع و بعثه علی الاستماع. حیث أقبل المتکلّم علیه، و أعطاه فضل عنایۀ و .« نمکّن لکم » و ختم بالخطاب
تخصیص بالمواجهۀ.
فهو تشریف لمقامهم بالحضور لدیه، و تفخیم لشأنهم. «3» و منه أیضا قوله تعالی: وَ سَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً. إِنَّ هذا کانَ لَکُمْ جَزاءً
.«4» و منه: إِنْ أَرادَ النَّبِیُّ أَنْ یَسْتَنْکِحَها خالِصَۀً لَکَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِینَ
صفحۀ 227 من 334
و هذا الالتفات هنا کان لأجل تخصیص الحکم بشخصه (صلّی اللّه علیه و آله)، فلا یعمّ المسلمین، فیما لو توهّم متوهّم أنّ ذکره کان
للتمثیل لا للتخصیص.
من أنّ الوجه فی العدول من الغیبۀ ( 1) سورة مریم: 88 و 89 . و الإدّ: الأمر المنکر المثیر «5» و هذا نظیر ما قالوه بشأن آیۀ الإسراء
للجلبۀ، من قولهم: أدّت الناقۀ اذا رجعت حنینها ترجیعا شدیدا. و الأدید: الجلبۀ.
. 2) الأنعام: 6 )
. 3) الانسان: 21 و 22 )
. 4) الأحزاب: 50 )
انتقالا من الغیبۀ إلی التکلّم عن النفس. «... سبحان الذي أسري بعبده- إلی قوله- لنریه » : 5) قوله )
ص: 438
إلی خطاب النفس کان لتخصیص القدرة، و أنّه غیر مستطاع لغیره تعالی، و هکذا هنا، إرادة لتخصیص هذا الحکم بالنبی (صلّی اللّه
علیه و آله) دون غیره.
و ممّا جاء من الالتفات مرارا علی قصر متنه و تقارب طرفیه قوله تعالی:
سُبْحانَ الَّذِي أَسْري بِعَبْدِهِ لَیْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَی الْمَسْجِدِ الْأَقْصَی الَّذِي بارَکْنا حَوْلَهُ لِنُرِیَهُ مِنْ آیاتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِیعُ الْبَصِیرُ.
بلفظ الجمع، ثمّ قال: إِنَّهُ هُوَ السَّمِیعُ الْبَصِیرُ و هو خطاب غائب. « الّذي بارکنا » : بلفظ الواحد، ثمّ قال « سبحان الّذي أسري » : فقال أولا
و لو جاء الکلام علی مساق الأول لکان: سبحان الذي أسري بعبده لیلا من المسجد الحرام إلی المسجد الأقصی الذي بارك حوله
فلمّا خولف بین المعطوف و المعطوف علیه فی ،« أسري » لیریه من آیاته إنه هو السمیع البصیر. و هذا جمیعه یکون معطوفا علی
الانتقال من صیغۀ إلی صیغۀ کان ذلک اتساعا و تفنّنا فی أسالیب الکلام، و لمقصد آخر معنوي هو أعلی و أبلغ.
و قد أسهب ابن الاثیر الکلام هنا و أبدع و أجاد، فلنتتبّع مقاله:
قال: و سأذکر ما سنح لی فی هذه الآیۀ الکریمۀ:
إذ لا یجوز أن یقال: الذي أسرینا. فلمّا جاء بلفظ الواحد- و اللّه تعالی أعظم « الذي أسري » : ردفه بقوله « سبحان » لمّا بدأ الکلام ب
العظماء، و هو أولی بخطاب العظیم فی نفسه الذي هو بلفظ الجمع استدرك الأول بالثانی، فقال:
و ذلک موضع متوسّط الصفۀ، لأنّ السمع و البصر صفتان یشارکه فیهما غیره، و تلک ،« أسري » عطفا علی « إنه هو » : ثمّ قال .« بارکنا »
حال متوسّطۀ فخرج بهما عن خطاب العظیم فی نفسه إلی خطاب غائب.
فانظر إلی هذه الالتفاتات المترادفۀ فی هذه الآیۀ الواحدة، التی جاءت
ص: 439
.«1» لمعان اختصّت بها، یعرفها من یعرفها، و یجهلها من یجهلها
و ممّا ینخرط فی هذا السلک، الرجوع من خطاب الغیبۀ إلی خطاب النفس، کقوله تعالی: ثُمَّ اسْتَوي إِلَی السَّماءِ وَ هِیَ دُخانٌ فَقالَ لَها
وَ لِلْأَرْضِ ائْتِیا طَوْعاً أَوْ کَرْهاً قالَتا أَتَیْنا طائِعِینَ. فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِی یَوْمَیْنِ وَ أَوْحی فِی کُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَ زَیَّنَّا السَّماءَ الدُّنْیا
.«2» بِمَصابِیحَ وَ حِفْظاً ذلِکَ تَقْدِیرُ الْعَزِیزِ الْعَلِیمِ
و الفائدة فی هذا العدول: أنّ طائفۀ من الناس غیر المتشرّعین کانوا یعتقدون أنّ النجوم لیست فی سماء الدنیا، و أنها لیست حفظا و
رجوما. فلمّا صار الکلام إلی هنا عدل إلی خطاب النفس لأنّه مهمّ من المهمّات، فناسبه التعزیز بالاستناد إلی النفس- و هو القادر
الحکیم- و من ثمّ عاد إلی الوصف بالعزّة و العلم توکیدا.
و أیضا ممّا ینخرط فی هذا السلک العدول من خطاب النفس إلی خطاب الجماعۀ، کقوله تعالی: وَ ما لِیَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِی وَ إِلَیْهِ
صفحۀ 228 من 334
و إنّما صرف الکلام عن خطاب نفسه إلی خطابهم لأنّه أبرز الکلام لهم فی معرض المناصحۀ و هو یرید مناصحتهم «3» تُرْجَعُونَ
«... و ما لی لا أعبد » لیتلطّف بهم و یداریهم، لأنّ ذلک أدخل فی إمحاض النصح، حیث لا یرید لهم إلّا ما یرید لنفسه. فقد وضع
و لو لا ذلک لقال: و إلیه أرجع. و قد ساق الکلام ذلک المساق « و إلیه ترجعون » مکان: و ما لکم لا تعبدون الذي فطرکم. بدلیل
. 1) المثل السائر: ج 2 ص 176 ) .«4» البدیع إلی أن قال: إِنِّی آمَنْتُ بِرَبِّکُمْ فَاسْمَعُونِ
. 2) فصّلت: 12 )
. 3) یس: 22 )
. 4) یس: 25 )
ص: 440
فانظر أیّها المتأمّل إلی هذه النکت الدقیقۀ التی تمرّ علیها فی آیات الذکر الحکیم، و أنت تظنّ أنّک فهمت فحواها، و استنبطت
مغزاها.
و علی هذا الاسلوب یجري الحکم فی الرجوع من خطاب النفس إلی خطاب الواحد، کقوله تعالی: حم. وَ الْکِتابِ الْمُبِینِ. إِنَّا أَنْزَلْناهُ
و «1» فِی لَیْلَۀٍ مُبارَکَ ۀٍ إِنَّا کُنَّا مُنْذِرِینَ. فِیها یُفْرَقُ کُلُّ أَمْرٍ حَکِیمٍ. أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا کُنَّا مُرْسِلِینَ. رَحْمَۀً مِنْ رَبِّکَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِیعُ الْعَلِیمُ
فائدة العدول فی قوله رَحْمَۀٍ مِنْ رَبِّکَ هو تخصیص النبیّ (صلّی اللّه علیه و آله) بالذکر، و أنه المقصود بالذات من هذا النزول.
و إذا تأمّلت مطاوي القرآن الکریم وجدت فیه من هذا و أمثاله الشیء الکثیر. و انّما اقتصرنا علی هذه الأمثلۀ المختصرة لیقاس :«2» قال
علیها ما یجري علی اسلوبها، فیتدبّر المتدبّرون.
و أمّا الرجوع من الخطاب إلی الغیبۀ، فکقوله تعالی: هُوَ الَّذِي یُسَیِّرُکُمْ فِی الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ حَتَّی إِذا کُنْتُمْ فِی الْفُلْکِ وَ جَرَیْنَ بِهِمْ بِرِیحٍ طَیِّبَۀٍ
وَ فَرِحُوا بِها جاءَتْها رِیحٌ عاصِفٌ وَ جاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ کُلِّ مَکانٍ وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِیطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِینَ لَهُ الدِّینَ لَئِنْ أَنْجَیْتَنا مِنْ هذِهِ
لَنَکُونَنَّ مِنَ الشَّاکِرِینَ. فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ یَبْغُونَ فِی الْأَرْضِ بِغَیْرِ الْحَقِّ یا أَیُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْیُکُمْ عَلی أَنْفُسِکُمْ مَتاعَ الْحَیاةِ الدُّنْیا ثُمَّ إِلَیْنا
انظر إلی هذا الکرّ و الفرّ، و الاستطراد و الرجوع، و المداورة العجیبۀ فی الکلام. فقد بدأ «3» مَرْجِعُکُمْ فَنُنَبِّئُکُمْ بِما کُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
.6 - الحدیث بخطاب الجمع، و عاد إلی الغیبۀ فی فصل طویل، ( 1) الدخان: 1
. 2) ابن الأثیر فی المثل السائر: ج 2 ص 178 )
. 3) یونس: 22 و 23 )
ص: 441
و رجع أخیرا إلی ما بدأ به أولا، و لکن فی صورة أعمّ و أشمل، فکأنما الناس جمیعا هم الحضور المخاطبون بهذا الکلام العام.
قال ابن الأثیر: إنما صرف الکلام هاهنا من الخطاب إلی الغیبۀ بهذا الشکل البدیع لفائدة کبري، هی: أنه ذکر لغیرهم حالهم، لیعجبهم
منها کالمخبر لهم، و یستدعی منهم الإنکار علیهم. و لو قال: حتی إذا کنتم فی الفلک و جرین بکم ... الخ، و ساق الخطاب معهم إلی
.«1» آخر الآیۀ لذهبت تلک الفائدة التی أنتجها خطاب الغیبۀ. و لیس ذلک بخاف علی نقدة الکلام
و ممّا ینحو هذا النحو قوله تعالی: إِنَّ هذِهِ أُمَّتُکُمْ أُمَّۀً واحِ دَةً وَ أَنَا رَبُّکُمْ فَاعْبُدُونِ. وَ تَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَیْنَهُمْ کُلٌّ إِلَیْنا راجِعُونَ و یستمرّ
.«2» الحدیث عنهم بخطاب الغیبۀ، و ینتهی إلی قوله: إِنَّکُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ
تقطّعتم، إلّا أنه صرف الکلام من الخطاب إلی الغیبۀ علی طریقۀ الالتفات، کأنّه ینعی علیهم ما أفسدوه إلی قوم « تقطّعوا » الأصل فی
آخرین، و یقبّح عندهم ما فعلوه، و یقول لهم: أ لا ترون إلی عظیم ما ارتکب هؤلاء فی دین اللّه، فجعلوا أمر دینهم فیما بینهم قطعا! و
ذلک تمثیل لحالۀ اختلافهم فی الدین، و تباینهم فی معرفۀ الصلاح من الفساد، ثم توعّدهم أخیرا بأنّ المرجع إلیه، و سوف یجازیهم
علی أعمالهم، و هو شدید العقاب.
صفحۀ 229 من 334
. و ممّا یجري هذا المجري قوله تعالی: ( 1) المثل السائر: ج 2 ص 181
.98 - 2) الأنبیاء: 92 )
ص: 442
یا أَیُّهَا النَّاسُ إِنِّی رَسُولُ اللَّهِ إِلَیْکُمْ جَمِیعاً الَّذِي لَهُ مُلْکُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ یُحیِی وَ یُمِیتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ النَّبِیِّ
.«1» الْأُمِّیِّ الَّذِي یُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ کَلِماتِهِ وَ اتَّبِعُوهُ لَعَلَّکُمْ تَهْتَدُونَ
فإنّه إنّما قال: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ ... و لم یقل: فآمنوا باللّه و بی ...
لکی یمکن إجراء الصفات علیه، تنبیها علی أنّ الذي یجب اتّباعه هو هذا الانسان المتّصف بهکذا صفات تؤهّله للإمامۀ و حمل رسالۀ
اللّه إلی الناس ...
إظهارا للنّصفۀ، و بعدا من تهمۀ التعصّب للنفس ... فقرّر أولا فی صدر الآیۀ أنه رسول اللّه إلی الناس.
ثم أخرج کلامه من الخطاب إلی معرض الغیبۀ لغرضین، الأول: إمکان إجراء تلک الصفات علیه. الثانی: الخروج من تهمۀ حبّ
الذات، لئلّا یکون ممّن یجرّ النار إلی قرصه. و هذا من لطیف البیان فی المداراة مع العامّۀ.
و نوع آخر من الالتفات، ما یکون الانتقال فیه من الفعل المستقبل أو الماضی إلی فعل الأمر، و هذا یدخل فی الحدّ الذي ذکره
السکاکی: کل تعبیر وقع علی خلاف مقتضی السیاق إذا کان لنکتۀ بیانیۀ.
قال ابن الأثیر: و هذا القسم کالذي قبله فی أنّه لیس العدول فیه من صیغۀ إلی اخري طلبا للتوسّع و لمجرّد التفنّن فی أسالیب الکلام
فقط، بل لأمر وراء ذلک، و سرّ کامن خلفه. فقد یقصد ذلک تعظیما لشأن من أجري علیه الفعل المستقبل و تفخیما لأمره، و بالضدّ
من ذلک فی من أجري علیه فعل الأمر.
فممّا جاء منه قوله تعالی: قالُوا یا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَیِّنَۀٍ وَ ما نَحْنُ بِتارِکِی آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِکَ وَ ما نَحْنُ لَکَ بِمُؤْمِنِینَ. إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ
. 1) الأعراف: 158 ) .«2» بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّی أُشْهِدُ اللَّهَ وَ اشْهَدُوا أَنِّی بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِکُونَ
. 2) هود: 53 و 54 )
ص: 443
لم یقل: أشهد اللّه و أشهدکم، و إنما عدل إلی صیغۀ الأمر، تهاونا بهم، فلا یتوازنوا مع اللّه فی شهادة صدق علی البراءة.
و منه العدول عن الماضی إلی الاستقبال أو العکس، کقوله تعالی: وَ اللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّیاحَ فَتُثِیرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلی بَلَدٍ مَیِّتٍ فَأَحْیَیْنا بِهِ
مسبوق و ملحوق بالفعل الماضی، اهتماما بشأنه، إرادة لاستحضار تلک الصورة البدیعۀ الدالّۀ علی القدرة « تثیر » : فقوله «1» الْأَرْضَ
الباهرة، و هی حکایۀ الحال التی یقع فیها إثارة الریاح للسحب. و هکذا یفعل بکلّ أمر فیه میزة و اختصاص، کحال تستغرب أو تهمّ
المخاطب أو غیر ذلک.
قال ابن الأثیر: العدول عن صیغۀ إلی اخري لا یکون إلّا لنوع خصوصیۀ اقتضت ذلک، و لا یتوخّاه إلّا العارف برموز الفصاحۀ و أسرار
.«2» البلاغۀ. و لیس یوجد ذلک فی کل کلام، فإنّه من أشکل ضروب علم البیان و أدقّها فهما و أغمضها طریقا
فهو لاستحصار صورة خطف الطیر إیّاه أو «3» و نظیر الآیۀ قوله: فَکَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّیْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّیحُ فِی مَکانٍ سَحِیقٍ
هويّ الریح به و للآیۀ تصویر فنّی رائع تکلّمنا عنه.
لم یقل: «4» و قوله تعالی: إِنَّ الَّذِینَ کَفَرُوا وَ یَصُدُّونَ عَنْ سَبِیلِ اللَّهِ
و صدّوا ... لأنّ کفرهم کان سابقا، و إنّما المتجدّد هو الصدّ عن سبیل اللّه، و لا یزال مستمرا.
. لأنّ ( 1) فاطر: 9 .«5» و مثلها قوله: أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً
. 2) المثل السائر: ج 2 ص 184 )
صفحۀ 230 من 334
. 3) الحج: 31 )
. 4) الحج: 25 )
. 5) الحج: 63 )
ص: 444
نزول المطر ینقطع أمّا الاخضرار فیبقی مدّة.
فالعدول إلی الماضی للدلالۀ علی «1» و قد عکس ذلک فی قوله: وَ یَوْمَ یُنْفَخُ فِی الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِی السَّماواتِ وَ مَنْ فِی الْأَرْضِ
.«2» التحقّق و أنّه کائن لا محالۀ. و مثلها قوله: وَ یَوْمَ نُسَیِّرُ الْجِبالَ وَ تَرَي الْأَرْضَ بارِزَةً وَ حَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً
و یجري هذا المجري الإخبار عن المستقبل باسم المفعول، کما فی قوله تعالی:
.«3» إِنَّ فِی ذلِکَ لَآیَۀً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِکَ یَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَ ذلِکَ یَوْمٌ مَشْهُودٌ
علی « مجموع » لأنّ اسم المفعول یتضمّن معنی الفعل الماضی الدالّ علی التحقّق و الوقوع لا محالۀ. فإنّه إنما آثر اسم المفعول الذي هو
لما فیه من الدلالۀ علی ثبات معنی الجمع للیوم، و أنّه الموصوف بهذه الصفۀ. قال ابن الأثیر: و ان « یجمع » الفعل المستقبل الذي هو
شئت فوازن بینه و بین قوله تعالی:
.«5» فإنّک تعثر علی صحّۀ ما قلت «4» یَوْمَ یَجْمَعُکُمْ لِیَوْمِ الْجَمْعِ
بأن یشرع المتکلّم فی نوع من الکلام و یستمرّ علیه، ثم یخرج إلی غیره، و أخیرا « الاستطراد » و نوع آخر من الالتفات، هو أشبه بباب
و هو من لطیف التفنّن فی التعبیر، کمن یطارد صیدا فیعنّ له آخر فیطرده، ثم یرجع ،« مداورة الکلام » یعود إلی ما کان علیه فلنسمّیه
و علی أیّۀ حال فإنه من تداخل الفنون الجمیلۀ و مجمع .« الاستدراك » و « الاعتراض » إلی الأسبق و هکذا. و قد ذکره بعضهم باسم
. أنحاء الجمال. ( 1) النمل: 87
. 2) الکهف: 47 )
. 3) هود: 103 )
. 4) التغابن: 9 )
. 5) المثل السائر: ج 2 ص 191 )
ص: 445
.«1» و مثّلوا له بقوله تعالی: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ لَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ
فقوله: وَ لَنْ تَفْعَلُوا استدراك جمیل، و تیئیس لطیف، و تبکیت قاطع، فللّه درّه من التفات بدیع.
أراد تعالی أن یضمّن آیۀ التحدّي ضربا آخر من الإعجاز بأخباره عن عجز مطبق عن إمکان معارضته :«2» قال قدامۀ بن جعفر الکاتب
مع الأبد، لیکون جریان هذا الخبر الصادق علی لسان نبیّه، حتی إذا وقع کان علما علی صدقه، فردّ المکذّبین، و ثبّت المؤمنین، فقال:
قبل أن یتمّ الکلام الأول. « و لن تفعلوا »
و کان یمکنه تأخیر هذه الجملۀ ... لکن لهذا التقدیم تأثیر بلیغ فی النظم، یجعل له فی القلوب من الجلالۀ و التفخیم و الرونق ما لا یعبّر
عنه. و لا یعرف لذلک سبب ظاهر إلّا وقوع تجنیس الازدواج بقوله: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ لَنْ تَفْعَلُوا نظیر قوله:
لکنه فی المعنی کان لهذا التقدیم سبب أقوي، هی زیادة علم من أعلام النبوّة، کانت مراعاته .«3» فَمَنِ اعْتَدي عَلَیْکُمْ فَاعْتَدُوا عَلَیْهِ
أولی علی الموعظۀ بقوله:
و نظیره قوله تعالی: یا بَنِی آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَیْکُمْ لِباساً یُوارِي سَوْآتِکُمْ وَ رِیشاً وَ لِباسُ التَّقْوي ذلِکَ خَیْرٌ ذلِکَ مِنْ آیاتِ «4» فَاتَّقُوا النَّارَ
.«5» اللَّهِ
صفحۀ 231 من 334
فقوله: وَ لِباسُ التَّقْوي ذلِکَ خَیْرٌ جملۀ معترضۀ أفادت تذکیرا بملازمۀ التقوي التی هی خیر لباس الصلاح، ثم یعود الکلام إلی ما قبله.
. قال قدامۀ بن جعفر: لمّا امتنّ سبحانه علی البشر بما أنزل علیهم من ( 1) البقرة: 24
2) توفی سنۀ 337 کان یضرب به المثل فی البلاغۀ. )
. 3) البقرة: 194 )
. 4) بدیع القرآن: ص 43 )
. 5) الأعراف: 26 )
ص: 446
اللباس و سهّل علیهم أمره- فی سیاق قصۀ أبیهم آدم علیه السّلام- أراد تذکیرهم بملازمۀ لباس التقوي. و کان یمکنه التأخیر، لکن
لیحصل نوع مناسبۀ مع صدر الکلام، حیث مجیء ذکر اللباس. و هو من محاسن البدیع، کما فی قول الشاعر:
قالوا اقترح شیئا نجد لک طبخه قلت اطبخوا لی جبّۀ و قمیصا
.«1» علی ما شرحه القوم « جناس المناسبۀ » و « جناس المزاوجۀ » بکلا قسمیه « التجنیس » و « المشاکلۀ » ففیه
قال ابن أبی الاصبع: و جاء فی الکتاب العزیز من الالتفات قسم غریب جدّا- لم أظفر فی سائر الکلام له بمثال، هدانی اللّه إلی العثور
علیه- و هو: أن یقدّم المتکلّم فی کلامه حدیثا عن أمرین یتعاقبان، ثم یخبر عن الأول منهما بشیء، و ینصرف عنه إلی الإخبار عن
الثانی، ثم یعود إلی الإخبار عن الأوّل، کقوله تعالی: إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَکَنُودٌ. وَ إِنَّهُ عَلی ذلِکَ لَشَ هِیدٌ. انصرف عن الإخبار عن الانسان
قال: و هذا یحسن أن یسمّی التفات «2» إلی الإخبار عن ربّه تعالی، ثم انصرف عنه و أخبر عن الانسان ثانیا وَ إِنَّهُ لِحُبِّ الْخَیْرِ لَشَدِیدٌ
.«3» الضمائر
قلت: هذا من مداورة الکلام و ردّ العجز علی الصدر أیضا، الأمر الذي یحصل به بین أطراف الکلام ملاءمۀ و تلاحم و ائتلاف، و هو
من لطیف الکلام.
. و الآیۀ إنما تصلح مثالا لذلک، بناء علی عود الضمیر فی ( 1) بدیع القرآن: ص 37 و 44 ، و راجع المطول للتفتازانی: ص 422
.8 - 2) العادیات: 6 )
. 3) بدیع القرآن مع تصرف: ص 45 . و صححناه علی معترك الأقران: ج 1 ص 383 )
ص: 447
.«1» و هو أحد القولین « ربّه » إِنَّهُ عَلی ذلِکَ لَشَهِیدٌ علی
و غیره: أنّ من الالتفات نقل الخطاب من الواحد إلی الاثنین أو الجمع و العکس، کقوله تعالی: قالُوا أَ جِئْتَنا لِتَلْفِتَنا «2» ذکر التنوخی
و لا شکّ أنّ الخطاب کان مع موسی (علیه السّلام) و لکن هارون کان .«3» عَمَّا وَجَ دْنا عَلَیْهِ آباءَنا وَ تَکُونَ لَکُمَا الْکِبْرِیاءُ فِی الْأَرْضِ
عضده و وزیره فکان المتّهم فی الاستحواذ علی سلطۀ البلاد- فی نظرهم- هما معا.
و قد مرّ أنّ العدول إلی الإفراد کان لأجل مراعاة الفاصلۀ أولا. و ثانیا لأنّ الذي یقع فی .«4» و قوله: فَلا یُخْرِجَنَّکُما مِنَ الْجَنَّۀِ فَتَشْقی
المشقّۀ من الزوجین هو الزوج بالذات.
کان المخاطب و المسئول الأول بهذا «5» و قوله: وَ أَوْحَیْنا إِلی مُوسی وَ أَخِیهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِکُما بِمِصْ رَ بُیُوتاً وَ اجْعَلُوا بُیُوتَکُمْ قِبْلَۀً
التکلیف هو موسی و هارون (علیهما السّلام) غیر أنّ الذي یجب علیه استقبال البیوت فی الصلاة هم بنو إسرائیل کافۀ. و من ثمّ هذا
العدول.
و أمثال هذه الدقائق- فی کتاب اللّه العزیز الحمید- کثیر، و إنما یبلغها العرّافون من أهل النظر و التحقیق، و قلیل ما هم ( 1) راجع
. الکشاف: ج 4 ص 788
صفحۀ 232 من 334
342 ) کان من أعیان فضلاء عصره عظیما واسع الأدب حسن الفصاحۀ، و - 2) هو القاضی أبو القاسم علی بن محمّد الانطاکی ( 278 )
کانوا یعدّونه ریحانۀ الندماء و تاریخ الظرفاء.
. 3) یونس: 78 )
. 4) طه: 117 )
. 5) یونس: 87 )
ص: 448
ایجاز و ایفاء أم براعۀ فی بلاغۀ البیان؟
اشارة
الإیجاز: هو حذف فضول الألفاظ مع الإیفاء بکمال المقصود. و هو نوع من الکلام شریف، لا یتعلّق به إلّا فرسان البلاغۀ، و سبّاق
میادین الفصاحۀ، ممّن سبق إلی غایتها و ما صلّی، و ضرب فی أعلی درجاتها بالقدح المعلّی. و ذلک لعلوّ شأنه و رفیع مقامه، بل و
لتعذّر إمکانه علی غیر أهله.
و البلیغ کل البلیغ من أوجز فی کلامه فأوفی، و اختصر فی مقاله فأفاد الأمر الذي یصعب علی غیر النبلاء من أرباب الفصاحۀ و البیان.
و قد کان للقرآن منه الحظّ الأوفر و القسط الأکبر بما أثار الإعجاب و أطار بعقول ذوي الألباب.
قال ابن الأثیر: و النظر فی هذا الباب إلی المعانی بالذات لا إلی الألفاظ، و لست أعنی بذلک أن تهمل الألفاظ، بحیث تعرّي عن
أوصافها الحسنۀ، بل أعنی أنّ مدار النظر فی هذا النوع إنما یختصّ بالمعانی، فربّ لفظ قلیل یدلّ علی معنی کثیر، و ربّ لفظ کثیر
یدلّ علی معنی قلیل.
و مثال هذا کالجوهرة الواحدة إلی الدراهم الکثیرة، فمن ینظر إلی طول الألفاظ یؤثر الدراهم لکثرتها، و من ینظر إلی شرف المعانی
و إذا نظرنا إلی مجموعها وجدناه یسیرا، لا « أمّ الکتاب » یؤثر الجوهرة لنفاستها. و لهذا سمّی النبیّ (صلّی اللّه علیه و آله) سورة الفاتحۀ
لمثل سورة « أمّا » یتناسب أن تکون
ص: 449
من السور الطوال، فعلمنا أنّ ذلک لأمر یرجع إلی معانیها. « آل عمران » أو « البقرة »
و بهذه المناسبۀ أفاد بیان أقسام معانی القرآن بما یشتمل علیه سوره و آیاته من أنحاء ستۀ، ثلاثۀ منها اصول، و ثلاثۀ فروع موفّرة
أکثرها فی الفاتحۀ.
أمّا الاصول، فأحدها: التعریف بالمدعوّ إلیه بما اشتمل علی ذکر صفاته و نعوته. و ثانیها: التعریف بالصراط المستقیم الذي یجب
سلوکه إلی اللّه تعالی و ثالثا: تعریف الحال بعد اللقاء فی نهایۀ المطاف.
و أمّا الفروع، فأحدها: التعریف بأحوال کل من المجیبین للدعوة و العاصین، و صنع اللّه بهم من النصرة أو التدمیر. و ثانیها: ذکر
مجادلات الخصوم. و ثالثها: أخذ الزاد و الأهبۀ للاستعداد.
فهذه أنحاء ستۀ تدور علیها معانی القرآن الکریم، فإذا نظرنا إلی سورة الفاتحۀ وجدناها حاویۀ علی أربعۀ من هذه الأنحاء. و لذلک
سمّاها النبیّ (صلّی اللّه علیه و آله) أمّ الکتاب.
« سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن » : کما أنه (صلّی اللّه علیه و آله) قال
لأنّها تحوي علی اثنین من هذه الستۀ ... و لذلک کانت آیۀ الکرسی سیّدة آي القرآن.
صفحۀ 233 من 334
و یروي أنه (صلّی اللّه علیه و آله) سأل أبیّ بن کعب، فقال: أيّ آیۀ معک فی کتاب اللّه أعظم؟ فقال: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَیُّ الْقَیُّومُ ...
فضرب (صلّی اللّه علیه و آله) فی صدره و قال: لیهنک العلم، أبا المنذر
و کانت کنیۀ ابیّ بن کعب.
.268 - 1) المثل السائر: ج 2 ص 265 ) .«1» قال: و کل هذا یرجع إلی المعانی، لا إلی الألفاظ، فاعرف ذلک و بیّنه لرموزه و أسراره
ص: 450
قسما الإیجاز
اشارة
و الایجاز إمّا بظاهر الحذف، فی حرف أو کلمۀ أو جملۀ ... ممّا یتنبّه له اللبیب من غیر کبیر کلفۀ، لدلالۀ فحوي الکلام علیه. أو غیر
محذوف الظاهر، سوي أنه من قلیل اللفظ کثیر المعنی. و یسمّی إیجاز القصر.
قال ابن الأثیر: و التنبّه لمواضع القصر فیه عسر جدّا، یحتاج إلی فضل تأمّل و طول تدبّر، لخفاء ما یستدلّ علیه. و لا یستنبطه إلّا من
«1» رست قدمه فی ممارسۀ هذا العلم (البیان) و صار له خلیقۀ و ملکۀ
إیجاز حذف:
قال ابن الأثیر: أمّا الایجاز بالحذف فإنه عجیب الأمر شبیه بالسحر، و ذاك أنک تري فیه ترك الذکر أفصح من الذکر، و الصمت عن
الإفادة أزید للإفادة، و تجدك أنطق ما تکون إذا لم تنطق، و أتمّ ما تکون مبیّنا إذا لم تبیّن و هذه جملۀ تنکرها حتی تخبر، و تدفعها
.«2» حتی تنظر
و من شرط حسنه، بل من لزوم حکم البلاغۀ فیه، أنه متی أظهر صار الکلام إلی شیء غثّ، لا یناسب ما کان علیه أولا من الطلاوة و
الجمال.
و قد أکثر القرآن منه و أجاد فیه بما أثار الإعجاب، و أبان سرّا من أسرار الإعجاز. القرآن لا یقف عند حدّ اجتناب الحشو و الفضول
من الکلام، و انتقاء الألفاظ و الکلمات التامّۀ الانطباق بالمعنی المراد. بل إنه کثیرا ما یسلک فی الإیجاز سبیلا أعزّ و أعجب تراه
( یعمد- بعد حذف فضول الکلام و زوائده- إلی حذف شیء من اصوله و أرکانه التی لا یتمّ الکلام فی العادة إلّا به، و لا یستقیم ( 1
.276 - المثل السائر: ج 2 ص 275
. 2) المصدر: ص 279 )
ص: 451
المعنی بدونه، و فی نفس الوقت یستثمر من تلک البقیۀ الباقیۀ ما یؤدّي المعنی کاملا، فی وضوح و طلاوة و عذوبۀ، حتی یخیّل إلیک
من سهولۀ المسلک أنّ لفظه أوسع من المعنی قلیلا.
و إذا ما طلبت سرّ ذلک رأیته قد أودع معنی تلک الکلمات المحذوفۀ أو الجمل المطویّۀ، فی کلمۀ هنا و حرف هناك، ثمّ أدار
بید صنّاعۀ، فأحکم بها خلقه و سوّاه، ثمّ نفخ فیه من روحه، فاذا هو مصقول «1» الاسلوب إدارة عجیبۀ، و أمرّ علیها جندرة البیان
أملس، و إذا هو نیّر مشرق، لا تشعر النفس بما کان فیه من حذف أو طیّ، و لا بما صار إلیه من استغناء و اکتفاء، إلّا بعد تأمّل و فحص
دقیق.
انظر إلی قوله تعالی: وَ لَوْ یُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَیْرِ لَقُضِیَ إِلَیْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِینَ لا یَرْجُونَ لِقاءَنا فِی طُغْیانِهِمْ یَعْمَهُونَ
وردت الآیۀ بشأن اولئک المجرمین، ممّن کان یتجاسر بموقف الرسول و یتهکّم به، قائلا متمسخرا: اللَّهُمَّ إِنْ کانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ «2»
صفحۀ 234 من 334
و قد قال تعالی بشأنهم: وَ إِمَّا نُرِیَنَّکَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّیَنَّکَ «3» عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَیْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِیمٍ
.«4» فَإِلَیْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِیدٌ عَلی ما یَفْعَلُونَ
و قال: قُلْ أَ رَأَیْتُمْ إِنْ أَتاکُمْ عَذابُهُ بَیاتاً أَوْ نَهاراً ما ذا یَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ. أَ ثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَ قَدْ کُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ
.( 1) یقال: جندر الکتاب بمعنی امرّ القلم علی ما درس منه (النبأ العظیم: ص 131 ) «5»
. 2) یونس: 11 )
. 3) الأنفال: 32 )
. 4) یونس: 46 )
. 5) یونس: 51 )
ص: 452
إلی غیرها من آیات تنم عن سفه أحلام المجرمین، و قد ألحدوا فی آیاته فقد جاء قوله تعالی- فی الآیۀ- ردّا علی سفههم فی
استعجال العذاب: ما ذا یستعجل هؤلاء؟ أ یستعجلون الشرّ؟ و هل ذاك فی صالحهم لو یعجّل اللّه لهم بالشرّ؟ ... فکانت الآیۀ فی نظمها
الطبیعی مسوقۀ فی ثلاثۀ مقاطع:
أولا: لو کانت سنّۀ اللّه أن یعجّل للناس الشرّ إذا استعجلوه کاستعجالهم بالخیر لعجّل لهم بالشرّ کما یعجّل لهم بالخیر.
ثانیا: لکن سنّته تعالی جرت بإمهال الظالمین حتی یحین حینهم.
ثالثا: فعلی وفق هذا النظام الرتیب یترك الظالمون و شأنهم فی هذه الحیاة حتی یأتی یومهم الموعود.
تلک جمل ثلاث کان الکلام فی وضعه العادي مؤتلفا منها، اثنتان مقدّمتان، و الثالثۀ هی النتیجۀ، علی شکل برهان. لکن القرآن اقتصر
علی الجملۀ الاولی و الأخیرة، طاویا ذکر الثانیۀ الوسطی، و التی کانت جملۀ استدراکیۀ حسب الترتیب المنطقی المألوف.
و بعد، أ فهل یحسّ بنقص فی الکلام، أو بخلل فی نظمه و تألیفه؟ أم هو کلام واحد منسجم تمام الانسجام و واف بإفادة الغرض من
الکلام تمام الإیفاء؟
النتیجۀ فی ذیله. و هذا البدیل أغنی « فاء » الامتناعیۀ فی صدر الکلام و « لو » و لعلّک عرفت البدیل من المحذوف المطويّ، هی دلالۀ
عن ذکر المحذوف، و لعلّه أنساه من طیّ الکلام بالمرّة، و لو ذکر لکان حشوا.
و من ثمّ عیب علی بیت الحماسی قوله:
و لو طار ذو حافر قبلها لطارت و لکنه لم یطر
إذ لا حاجۀ إلی ذکر الاستثناء بعد وضوحه و دلالۀ الکلام علیه.
ص: 453
.«1» و أبرع الإیجاز ما کان بحذف الجمل التامّۀ، هی أسئلۀ مقدّرة أو تعالیل و أسباب و مسبّبات أو غیر ذلک ممّا فصّله علماء البیان
من ذلک قوله تعالی: قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِینَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِی سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِیلًا مِمَّا تَأْکُلُونَ. ثُمَّ یَأْتِی مِنْ بَعْدِ ذلِکَ سَبْعٌ شِدادٌ
.«2» یَأْکُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِیلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ. ثُمَّ یَأْتِی مِنْ بَعْدِ ذلِکَ عامٌ فِیهِ یُغاثُ النَّاسُ وَ فِیهِ یَعْصِرُونَ. وَ قالَ الْمَلِکُ ائْتُونِی بِهِ
واقعا بعد تقدیر جمل، کأنّه قال: فرجع الرسول إلیهم، فأخبرهم بمقالۀ یوسف، فعجبوا لها، و قال الملک «... و قال الملک » فکان قوله
...
قال ابن الأثیر: و المحذوف إذا کان کذلک دلّ علیه الکلام دلالۀ ظاهرة، لأنّه إذا ثبتت حاشیتا الکلام و حذف وسطه ظهر المحذوف
ظهورا تامّا.
و هکذا ورد قوله تعالی: فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِیرُ أَلْقاهُ عَلی وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِیراً قالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَکُمْ إِنِّی أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ. قالُوا یا أَبانَا
صفحۀ 235 من 334
اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا کُنَّا خاطِئِینَ. قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَکُمْ رَبِّی إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِیمُ فَلَمَّا دَخَلُوا عَلی یُوسُفَ آوي إِلَیْهِ أَبَوَیْهِ وَ قالَ ادْخُلُوا
.«3» مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِینَ
فقد حذف من هذا الکلام جملۀ، تقدیرها: ثم إنهم تجهّزوا و ساروا إلی مصر، فلمّا دخلوا علی یوسف ...
. قال: و قد ورد من هذا الضرب (الإیجاز بحذف الجمل) فی القرآن الکریم کثیرا، کقوله تعالی: ( 1) راجع المثل السائر: ج 2 ص 281
.50 - 2) یوسف: 47 )
.99 - 3) یوسف: 96 )
ص: 454
.«1» وَ حَرَّمْنا عَلَیْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّکُمْ عَلی أَهْلِ بَیْتٍ یَکْفُلُونَهُ لَکُمْ وَ هُمْ لَهُ ناصِحُونَ. فَرَدَدْناهُ إِلی أُمِّهِ کَیْ تَقَرَّ عَیْنُها
«... فرددناه » : قالوا: نعم، فدلّتهم علی امرأة فجیء بها، و هی امّه، و لم یعلموا بها، فأرضعته، فکان قوله «... هل أدلکم » : لأنّها لمّا قالت
تعقیبا علی ذلک المحذوف و دلیلا علیه.
و ممّا یجري علی هذا المنهج قوله تعالی فی ق ّ ص ۀ سلیمان (علیه السّلام) مع الهدهد فی إرساله بالکتاب إلی بلقیس: قالَ سَنَنْظُرُ أَ
صَ دَقْتَ أَمْ کُنْتَ مِنَ الْکاذِبِینَ. اذْهَبْ بِکِتابِی هذا فَأَلْقِهْ إِلَیْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا یَرْجِعُونَ قالَتْ یا أَیُّهَا الْمَلَأُ إِنِّی أُلْقِیَ إِلَیَّ کِتابٌ
.«2» کَرِیمٌ
تقدیره: فأخذ الکتاب، و ذهب به، فلمّا ألقاه إلی المرأة و قرأته قالت ...
قال: و من الإیجاز بحذف الجمل ما یعسر تقدیر المحذوف منه، بخلاف ما جاء فی القرآن الکریم، أ لا تري أنّ الآیات المذکورة
کلها إذا تأمّلتها وجدت معانیها متّصلۀ من غیر تقدیر للمحذوفات التی قدّرنا الحذف فیها، انتظاما لظاهر نظم الکلام، علی أنّ تقدیر
.«3» تلک المحذوفات سهل ببدیهۀ النظر
أنحاء الإیجاز بحذف الجمل و هی أربعۀ ضروب
اشارة
الجمل المقدّرة حذفها قد تکون مستقلّۀ بالإفادة و تامّۀ، و اخري غیر تامّۀ کجملۀ الشرط أو الجزاء و نحو ذلک. و القسم الأول خاصّ
و هذا أحسن المحذوفات جمیعها، و لا تکاد تجده إلّا فی کتاب اللّه :«4» بالقرآن، و هو أدلّ علی حسن الاختصار، قال ابن الأثیر
. العزیز الحمید، و سائر الکلام خلو منه البتۀ، فکان ( 1) القصص: 12 و 13
.29 - 2) النمل: 27 )
. 3) المثل السائر: ج 2 ص 291 )
. 4) المثل السائر: ج 2 ص 280 )
ص: 455
وجها فی الإعجاز.
و جملۀ القسمین أربعۀ أضرب:
الضرب الأول:
و هو تارة بإعادة الاسم أو الصفۀ، و اخري بغیر إعادتهما و لا إشارة إلیهما. .« الاستئناف » حذف السؤال المقدّر، و یسمّی
و الأحسن ما کان باعادة الصفۀ، لانطوائه علی بیان السبب الموجب لتخصیصه، و هذا أبلغ.
صفحۀ 236 من 334
فإنّه تعالی لمّا و سمهم بتلک السمات العظام «1» فممّا ورد من ذلک قوله تعالی: أُولئِکَ عَلی هُديً مِنْ رَبِّهِمْ وَ أُولئِکَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
اتّجه لسائل أن یقول: ما بال المستقلّین بتلک الصفات قد اختصّوا بالهدي و الفلاح دون غیرهم؟ فاجیب بأنّ تلک السمات أهّلتهم
لذلک، ففازوا بعنایۀ اللّه لهم بالهدي عاجلا و بالفلاح آجلا. و اسم الاشارة هنا بمنزلۀ إعادة الصفات أي اولئک الموسومون بالإیمان
بالغیب و إقامۀ الصلاة و الإنفاق فی سبیله تعالی ...
الخ.
و ممّا ورد بغیر إعادة اسم و لا صفۀ قوله تعالی: وَ ما لِیَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِی وَ إِلَیْهِ تُرْجَعُونَ. أَ أَتَّخِ ذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَۀً إِنْ یُرِدْنِ الرَّحْمنُ
بِضُ رٍّ لا تُغْنِ عَنِّی شَ فاعَتُهُمْ شَیْئاً وَ لا یُنْقِذُونِ. إِنِّی إِذاً لَفِی ضَلالٍ مُبِینٍ. إِنِّی آمَنْتُ بِرَبِّکُمْ فَاسْمَعُونِ. قِیلَ ادْخُلِ الْجَنَّۀَ قالَ یا لَیْتَ قَوْمِی
.«2» یَعْلَمُونَ. بِما غَفَرَ لِی رَبِّی وَ جَعَلَنِی مِنَ الْمُکْرَمِینَ
. مخرج الاستئناف، لأنّ ذلک من ( 1) البقرة: 5 «... قیل ادخل » فمخرج هذا القول
.27 - 2) یس: 22 )
ص: 456
مظانّ المسألۀ عن حاله عند لقاء ربّه.
و کأنّ قائلا قال: کیف حال هذا الرجل عند لقاء ربّه، بعد ذلک التصلّب فی دینه، و التسخّی لوجهه بروحه؟ فقیل ...
و لم یقل: قیل له، لانصباب الغرض إلی القول، لا إلی المقول له، مع کونه معلوما.
و کذلک قوله: یا لَیْتَ قَوْمِی یَعْلَمُونَ مرتّب علی تقدیر سؤال سائل عمّا وجد.
و من هذا النحو قوله عزّ و جلّ: یا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلی مَکانَتِکُمْ إِنِّی عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ یَأْتِیهِ عَذابٌ یُخْزِیهِ وَ مَنْ هُوَ کاذِبٌ وَ ارْتَقِبُوا
فی آیۀ اخري نظیرتها: قُلْ یا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلی مَکانَتِکُمْ إِنِّی عامِلٌ فَسَوْفَ « فسوف » و الفرق بین إثبات الفاء فی «1» إِنِّی مَعَکُمْ رَقِیبٌ
و بین حذف الفاء فی الآیۀ الاولی أنّ إثباتها وصل ظاهر بحرف موضوع «2» تَعْلَمُونَ مَنْ یَأْتِیهِ عَذابٌ یُخْزِیهِ وَ یَحِلُّ عَلَیْهِ عَذابٌ مُقِیمٌ
للوصل، و حذفها وصل خفیّ تقدیريّ بالاستئناف الذي هو جواب لسؤال مقدّر. کأنهم قالوا: فما ذا یکون اذا عملنا نحن علی مکانتنا و
عملت أنت؟ فقال: سوف تعلمون ... فوصل تارة بالفاء، و تارة بالاستئناف، و ذلک کله تفنّن فی البلاغۀ. و أقوي الوصلین و أبلغهما
الاستئناف، و هو قسم من أقسام علم البیان، تتکاثر محاسنه، فاعرفه و اغتنم.
الضرب الثانی:
. الاکتفاء بالسبب عن المسبّب أو العکس. ( 1) هود: 93
. 2) الزمر: 39 و 40 )
ص: 457
أمّا الاکتفاء بالسبب فکقوله تعالی: وَ ما کُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِیِّ إِذْ قَ َ ض یْنا إِلی مُوسَی الْأَمْرَ وَ ما کُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِینَ. وَ لکِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً
کأنّه قال: و ما کنت شاهدا لموسی (علیه السّلام) و ما جري له و علیه، و لکنّا أوحینا إلیک. فذکر سبب .«1» فَتَطاوَلَ عَلَیْهِمُ الْعُمُرُ
الوحی الذي هو إطالۀ الفترة، و دلّ به علی المسبّب الذي هو الوحی، علی عادة اختصارات القرآن.
و تقدیر الکلام: و لکنّا أنشأنا- منذ انقطاع الوحی بعد موسی- قرونا کثیرة، فتطاول علیهم العمر، أي أمد انقطاع الوحی، فاندرست
العلوم و اختلّت المعارف بشئون الأنبیاء، و من جملتها العلم بسیرة موسی (علیه السّلام)، فدعت الحاجۀ إلی تجدید الوحی ببعث نبیّ
جدید، فأرسلناك و عرّفناك العلوم و المعارف. فالمحذوف جملۀ مقیّدة، و هی جملۀ مطوّلۀ، دلّ السبب فیها علی المسبّب.
و کذلک ورد قوله تعالی عقیب هذه الآیۀ أیضا: وَ ما کُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَیْنا وَ لکِنْ رَحْمَۀً مِنْ رَبِّکَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِیرٍ
صفحۀ 237 من 334
.«2» مِنْ قَبْلِکَ لَعَلَّهُمْ یَتَذَکَّرُونَ
فإنّ فیه تقدیرا لولاه لم یستقم نظم الکلام. تقدیره: و لکن عرّفناك ذلک، و أوحیناه إلیک رحمۀ من ربّک، لتنذر قوما ... فذکر
الرحمۀ التی هی سبب إرساله (صلّی اللّه علیه و آله) إلی الناس، و دلّ بها علی المسبّب الذي هو الإرسال.
. و ممّا حذف فیه الجملۀ غیر التامّۀ من باب حذف المسبّب لدلالۀ السبب، ( 1) القصص: 44 و 45
. 2) القصص: 46 )
ص: 458
قوله تعالی:- حکایۀ عن مریم (علیها السّلام): قالَتْ أَنَّی یَکُونُ لِی غُلامٌ وَ لَمْ یَمْسَسْنِی بَشَرٌ وَ لَمْ أَكُ بَغِیا. قالَ کَذلِکِ قالَ رَبُّکِ هُوَ
.«1» عَلَیَّ هَیِّنٌ وَ لِنَجْعَلَهُ آیَۀً لِلنَّاسِ وَ رَحْمَۀً مِنَّا وَ کانَ أَمْراً مَقْضِیا
فقوله: وَ لِنَجْعَلَهُ آیَۀً ... تعلیل معلّله محذوف، أي: و إنما فعلنا ذلک لنجعله آیۀ للناس. فذکر السبب الذي صدر الفعل من أجله، و هو
جعله آیۀ للناس، و دلّ به علی المسبّب الذي هو الفعل.
أي: إذا أردت قراءة القرآن .«2» و أمّا الاکتفاء بالمسبّب عن السبب فکقوله تعالی: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّیْطانِ الرَّجِیمِ
فاکتفی بالمسبّب الذي هو القراءة عن السبب الذي هو الإرادة.
و الدلیل علی ذلک أنّ الاستعاذة قبل القراءة، أي استعذ إذا قرأت، أي أردت القراءة.
لأنّ الوضوء قبل القیام إلی الصلاة. «3» ... و نظیره قوله تعالی: إِذا قُمْتُمْ إِلَی الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا
أي فضرب فانفجرت منه ... و تسمّی هذه الفاء فاء .«4» و أیضا قوله: فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَیْناً
الفصیحۀ.
الضرب الثالث:
. الإضمار علی شریطۀ التفسیر. بأن یحذف من الکلام شیء، و یکون فی آخر الکلام ما یدلّ علیه من لفظه. ( 1) مریم: 20 و 21
. 2) النحل: 98 )
. 3) المائدة: 6 )
. 4) البقرة: 60 )
ص: 459
.«1» کقوله تعالی: أَ فَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلی نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَیْلٌ لِلْقاسِیَۀِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِکْرِ اللَّهِ أُولئِکَ فِی ضَلالٍ مُبِینٍ
تقدیره: أ فمن شرح اللّه صدره للإسلام کمن أقسی قلبه؟! و یدلّ علیه قوله- بعد ذلک-: فَوَیْلٌ لِلْقاسِیَۀِ قُلُوبُهُمْ.
فطرف الاستواء .«2» ... و کقوله: لا یَسْتَوِي مِنْکُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَ قاتَلَ أُولئِکَ أَعْظَمُ دَرَجَۀً مِنَ الَّذِینَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَ قاتَلُوا
محذوف، دلّت علیه الجملۀ بعدها.
الضرب الرابع:
ما لا یکون أحد الثلاثۀ المتقدّمۀ، کما فی قوله تعالی: قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِینَ دَأَباً- إلی قوله:- وَ فِیهِ یَعْصِرُونَ. وَ قالَ الْمَلِکُ ائْتُونِی بِهِ
.«3»
فبین قوله: وَ فِیهِ یَعْصِ رُونَ و قوله: وَ قالَ الْمَلِکُ ... تقدیر جمل کثیرة، تقدیرها: فرجع الرسول إلیهم، فأخبرهم بمقالۀ یوسف، فعجبوا
لها، فتشاوروا بینهم ما ذا یفعلون، فاستقرّ أمرهم علی أن یطلبوه، فیکلّموه مشافهۀ ... و قال الملک.
صفحۀ 238 من 334
و المحذوف المقدّر قد دلّ علیه الکلام دلالۀ ظاهرة، و ذلک لدلالۀ حاشیتیه.
و کذلک قوله: فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِیرُ أَلْقاهُ عَلی وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِ یراً قالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَکُمْ إِنِّی أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ. قالُوا یا أَبانَا اسْتَغْفِرْ
. لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا کُنَّا خاطِئِینَ. قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَکُمْ رَبِّی إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِیمُ. فَلَمَّا دَخَلُوا ( 1) الزمر: 22
. 2) الحدید: 10 )
.50 - 3) یوسف: 47 )
ص: 460
.«1» عَلی یُوسُفَ آوي إِلَیْهِ أَبَوَیْهِ وَ قالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِینَ
تقدیرها: ثمّ إنّهم تجهّزوا و ساروا إلی مصر، فلمّا دخلوا علی یوسف ...
قال ابن الأثیر: و قد ورد هذا الضرب فی القرآن الکریم کثیرا، کقوله تعالی: وَ حَرَّمْنا عَلَیْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّکُمْ عَلی أَهْلِ
فی هذا محذوف، و هو جواب الاستفهام. لأنها قالت: هل «2» بَیْتٍ یَکْفُلُونَهُ لَکُمْ وَ هُمْ لَهُ ناصِ حُونَ. فَرَدَدْناهُ إِلی أُمِّهِ کَیْ تَقَرَّ عَیْنُها
أدلّکم ...؟
و تقدیر الجواب: نعم. و دلّتهم علی امرأة، فجیء بها، و هی امّه، و لم یعلموا بمکانها، فأرضعته. و هذه الجملۀ الثانیۀ- أعنی قوله تعالی:
فَرَدَدْناهُ إِلی أُمِّهِ ... تدلّ علی المحذوف. لأنّ ردّه إلی امّه لم یکن إلّا بعد ردّ الجواب علی اخته، و دلالتها إیّاهم علی امرأة وصفتها
لهم لکی ترضعه.
قال: و یکفی هذا الموضع وحده لمن یتبصّر فی مواقع المحذوفات و کیفیتها.
و ممّا یجري علی هذا المنهج قوله تعالی- فی قصۀ سلیمان (علیه السّلام) مع الهدهد و إرساله بالکتاب إلی بلقیس-: قالَ سَنَنْظُرُ أَ
صَ دَقْتَ أَمْ کُنْتَ مِنَ الْکاذِبِینَ. اذْهَبْ بِکِتابِی هذا فَأَلْقِهْ إِلَیْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا یَرْجِعُونَ قالَتْ یا أَیُّهَا الْمَلَأُ إِنِّی أُلْقِیَ إِلَیَّ کِتابٌ
.«3» کَرِیمٌ
تقدیره: فأخذ الکتاب، و ذهب به، فلمّا ألقاه إلی المرأة و قرأته قالت ...
.99 - قال: و من حذف الجمل ما یعسر تقدیر المحذوف منه، بخلاف ما تقدّم، أ لا ( 1) یوسف: 96
. 2) القصص: 12 و 13 )
.29 - 3) النمل: 27 )
ص: 461
تري أنّ الآیات المذکورة کلّها إذا تأمّلتها وجدت معانیها متّصلۀ من غیر تقدیر للمحذوفات التی قدّر حذفها. ثم إذا قدّرت سهل
تقدیرها ببدیهۀ النظر.
و لکن هناك ما لیس کذلک، بل إذا تأمّله المتأمّل وجده غیر متّصل المعنی، و إذا أراد أن یقدّر المحذوف عسر علیه.
فممّا جاء منه قوله تعالی: وَ ما یَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلَّا صَ یْحَۀً واحِ دَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ. وَ قالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ یَوْمِ الْحِسابِ. اصْبِرْ عَلی ما
.«1» یَقُولُونَ وَ اذْکُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَیْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ
فهذا الکلام إذا تأمّلته لم تجده متّصل المعنی، و لم یتبیّن وجه لمجیء ذکر داود (علیه السّلام) رادفا لقوله: اصْبِرْ عَلی ما یَقُولُونَ. و إذا
أردت أن تقدّر هنا محذوفا یوصل به المعنی عسر علیک.
و تقدیره یحتمل وجهین:
أحدهما: أنه قال: اصْبِرْ عَلی ما یَقُولُونَ، و خوّفهم أمر معصیۀ اللّه، و عظّمها فی عیونهم بذکر ق ّ ص ۀ داود الذي کان نبیّا و قد آتاه اللّه
الملک و النبوّة، و مع ذلک لمّا زلّ زلّۀ قوبل بکذا و کذا، فما الظنّ بکم أنتم مع کفرکم؟
صفحۀ 239 من 334
و الوجه الآخر: أنّه قال: اصْبِرْ عَلی ما یَقُولُونَ و احفظ نفسک أن تزلّ فی شیء ممّا کلّفته من مصابرتهم، و احتمال أذاهم. و اذکر
أخاك داود و کرامته علی اللّه کیف زلّ تلک الزلّۀ، فلقی من توبیخ اللّه ما لقی؟! فهذا الکلام کما تري یحتاج إلی تقدیر، حتی یتّصل
بعضه ببعض، و هو من أغمض ما یأتی من المحذوفات. و به یتنبّه علی مواضع اخري غامضۀ.
.17 - و من هذا الضرب، و کأنّ الجمل المحذوفۀ غیر تامّۀ، قوله تعالی: ( 1) ص: 15
ص: 462
.«1» یا زَکَرِیَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ یَحْیی إلی قوله:- بُکْرَةً وَ عَشِیا. یا یَحْیی خُذِ الْکِتابَ بِقُوَّةٍ وَ آتَیْناهُ الْحُکْمَ صَبِیا
تقدیره: و لمّا ولد له الغلام المبشّر به و نشأ و ترعرع قلنا له: یا یحیی خذ الکتاب! و علی هذا المنهج ورد قوله تعالی: وَ لَقَدْ قالَ لَهُمْ
.«2» ... هارُونُ مِنْ قَبْلُ یا قَوْمِ- إلی قوله:- حَتَّی یَرْجِعَ إِلَیْنا مُوسی قالَ یا هارُونُ ما مَنَعَکَ إِذْ رَأَیْتَهُمْ ضَلُّوا
تقدیره: فلمّا رجع موسی و رآهم علی تلک الحال من عبادة العجل قال لأخیه: یا هارون ...
و کذلک ورد قوله فی ق ّ ص ۀ سلیمان (علیه السّلام) مع بلقیس: قالَ یا أَیُّهَا الْمَلَؤُا أَیُّکُمْ یَأْتِینِی بِعَرْشِها- إلی قوله:- فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِ  را
.«3» ... عِنْدَهُ- إلی قوله: قالَ نَکِّرُوا لَها عَرْشَها
.«4» ... تقدیره: فلمّا جاء به قال: نکّروا لها عرشها
و بقی حذف المفردات، و أحکامها کثیرة، هی ذوات شأن مرتبط بمسائل النحو، أمسّ منها بمسائل البلاغۀ و البیان ... و من ثمّ
ترکناه.
أنواع الحذف:
.12 - ذکر جلال الدین السیوطی أنواعا من الحذف البلیغ، و قد جاء فی القرآن ( 1) مریم: 7
.92 - 2) طه: 90 )
.41 - 3) النمل: 38 )
.295 - 4) المثل السائر: ج 2 ص 275 )
ص: 463
أبلغها و أوفاها، بل ألطفها و أبهاها، و هی أربعۀ أنواع:
أحدها: ما یسمّی بالاقتطاع، و هو حذف بعض أحرف الکلمۀ، تخفیفا و تسهیلا فی الأداء أو لرعایۀ المناسبۀ و فواصل رءوس الآي و
أنکر بعضهم وقوع هذا النوع فی القرآن! و ردّ بأنّ بعضهم جعل الحروف المقطّعۀ فی فواتح السور منه، باعتبار اقتطاعها من أسمائه
بالترخیم ... و قد سمعها بعض أهل الظرف فقال: «1» تعالی. و کذا فی قراءة بعضهم: و نادوا یا مال
.«3» قلت: و الأحسن التمثیل بقوله تعالی: وَ اللَّیْلِ إِذا یَسْرِ «2» !؟ ما أغنی أهل النار عن الترخیم
و قد سأل السدوسیّ الأخفش عن هذه الآیۀ، فقال: عادة العرب أنّها اذا عدلت بالشیء عن معناه نقصت حروفه. و اللیل لمّا کان لا
.«4» یسري، و إنما یسري فیه، نقص منه حرف، کما قال تعالی وَ ما کانَتْ أُمُّکِ بَغِیا
.«5» نقص منه حرف « فاعل » الاصل: بغیّۀ، فلمّا حوّل عن
و أمثال ذلک. «8» ... و یاء الْکَبِیرُ الْمُتَعالِ .«7» ... و واو سَنَدْعُ الزَّبانِیَۀَ «6» ... و هکذا نون لَمْ یَکُ
الثانی: ما یسمّی بالاکتفاء، و هو أن یقتضی المقام ذکر شیئین بینهما تلازم و ارتباط، و إن کان هو تناسب الضدّ مثلا، فیکتفی بذکر
أي و البرد. و خ ّ صص ذکر الحرّ، «9» أحدهما و یترك الآخر، لمعلومیّته أولا، و لنکتۀ ثانیا، کما فی قوله تعالی: سَرابِیلَ تَقِیکُمُ الْحَرَّ
. لأنّ الخطاب مع عرب البادیۀ، ( 1) الزخرف: 77
صفحۀ 240 من 334
. 2) معترك الأقران: ج 1 ص 319 )
. 3) الفجر: 4 )
. 4) مریم: 28 )
. 5) معترك الاقران: ج 1 ص 307 )
. 6) الأنفال: 53 )
. 7) العلق: 18 )
. 8) الرعد: 9 )
. 9) النحل: 81 )
ص: 464
و هی صحراء قاحلۀ أکثر أحوالها حارّة تهبّ فیها أریاح سامّۀ، فهم بما یقیهم من سموم الحرّ أحوج منهم لبرد القرّ.
أي و الشر، و إنّما ترك لعدم مناسبته فی ظاهر النسبۀ إلی المولی الکریم. و لأنّ الخیر هو «1» و من هذا الباب أیضا قوله: بِیَدِكَ الْخَیْرُ
مطلوب العباد و مرغوبهم لدیه تعالی. و قیل: لأنّ الخیر هو الأکثر وجودا فی العالم.
فترك هارون، لأنّ الخطاب کان مع موسی (علیه السّلام) الثالث: ما یسمّی بالاحتباك. و هو من «2» و قوله: فَمَنْ رَبُّکُما یا مُوسی
ألطف أنواعه و أبدعها. و قلّ من تنبّه له، أو نبّه علیه من أهل البلاغۀ. قال البقاعی: و هو نوع عزیز، هو: أن یحذف من أول الکلام ما
اثبت نظیره فی مؤخّره، أو من آخر الکلام ما اثبت نظیره فی أوله. و منه فی القرآن ألطفه.
مثاله من محذوف الأول قوله تعالی: وَ مَثَلُ الَّذِینَ کَفَرُوا کَمَثَلِ الَّذِي یَنْعِقُ بِما لا یَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَ نِداءً صُمٌّ بُکْمٌ عُمْیٌ فَهُمْ لا یَعْقِلُونَ
أي و مثل الذین یدعون إلی الحقّ مع الذین کفروا کمثل الذي ینعق بالبهائم. .«3»
قال الزمخشري: لا بدّ من مضاف محذوف، تقدیره: و مثل داعی الذین کفروا کمثل الذي ینعق ... و المعنی: و مثل داعیهم إلی
الإیمان- فی أنهم لا یسمعون من الدعاء إلّا جرس النغمۀ و دويّ الصوت، من غیر إلقاء فی أذهان و لا استبصار- کمثل الناعق بالبهائم.
. و قد تکون الآیۀ ممّا حذف فیه المؤخّر، لیکون التقدیر: و مثل الذین کفروا ( 1) آل عمران: 26
. 2) طه: 49 )
. 3) البقرة: 171 )
ص: 465
.«1» ... کبهائم الذي ینعق
و فی الغرائب للکرمانی: التقدیر: مثل الذین کفروا معک یا محمّد کمثل الناعق مع الغنم. فحذف من کل طرف ما یدلّ علیه الطرف
الآخر ... قال:
و له فی القرآن نظائر، و هو أبلغ ما یکون من الکلام ...
قال السیوطی: و مأخذ هذه التسمیۀ من الحبک بمعنی الشدّ و الإحکام، و تحسین أثر الصنعۀ فی الثوب. فحبک الثوب سدّ ما بین
خیوطه و شدّه و إحکامه بحیث یمنع عنه الخلل، مع الحسن و الرونق. فلمّا کانت مواضع الحذف من الکلام بمنزلۀ الفرج و الخلل، لو
لا أنّ الناقد البصیر بصوغه الماهر فی نظمه و حوکه قد صاغه بما یمنع عنه ظهور أيّ خلل فیه، فقد حبکه بما سدّ علیه الفرج، مع ما
.«2» أکسبه من الحسن و الرونق
أي فئۀ مؤمنۀ تقاتل فی سبیل اللّه، و اخري کافرة تقاتل فی سبیل «3» و من لطیفه قوله تعالی: فِئَۀٌ تُقاتِلُ فِی سَبِیلِ اللَّهِ وَ أُخْري کافِرَةٌ
الطاغوت ...
صفحۀ 241 من 334
أي إن افتریته فعلیّ إجرامی و أنتم برآء منه، و «4» و قوله تعالی: أَمْ یَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَیْتُهُ فَعَلَیَّ إِجْرامِی وَ أَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ
إن افتریتم فعلیکم إجرامکم و أنا برئ ممّا تجرمون.
أي یطهرن و یتطهّرن، فإذا طهرن و تطهرّن فأتوهن. «5» و قوله: وَ لا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّی یَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ
. الرابع: ما یسمّی بالاختزال، و هو ما لا یبدو علیه أثر التقدیر، و لا یعرف منه ( 1) راجع الکشاف: ج 1 ص 214
. 2) معترك الاقران: ج 1 ص 323 )
. 3) آل عمران: 13 )
. 4) هود: 35 )
. 5) البقرة: 222 )
ص: 466
مواضع الحذف سوي أنه کلام صیغ فی غایۀ الجودة و الاختصار، واف بالمقصود مع حسن الإیجاز.
و هذا من أحسن الحذف و أجمله، و هو فی القرآن کثیر جدّا. قال ابن جنّی:
.«1» علی ترتیب السور و الآیات « المجاز » فی القرآن منه زهاء ألف موضع، و قد سردها الشیخ عزّ الدین فی کتابه
لأنّ تعلّق الفعل بالزمان هو تعلّق المظروف بالظرف، لو لا أنّ فی الآیۀ حمل أحدهما علی «2» منه قوله تعالی: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ
الآخر حمل اتحاد و هو من لطیف البیان و ظریفه، فلو قدّرت: وقت الحجّ أشهر، أو فعل الحجّ فی أشهر، لذهبت برونق الکلام و
جماله.
و منه تعلّق الأحکام التکلیفیۀ الشرعیۀ بنفس الذوات، فإنه لا بدّ من تقدیر فعل مناسب. و ذلک فی مثل قوله تعالی: حُرِّمَتْ عَلَیْکُمُ
فإنّ فی «5» و قوله: أَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها «4» و قوله: حُرِّمَتْ عَلَیْکُمْ أُمَّهاتُکُمْ وَ بَناتُکُمْ وَ أَخَواتُکُمْ .«3» الْمَیْتَۀُ وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخِنْزِیرِ
البادي علیها أثر التقدیر «6» هکذا تعابیر لا یبدو علیها أثر التقدیر، و لیست مثل قوله: وَ سْئَلِ الْقَرْیَۀَ الَّتِی کُنَّا فِیها وَ الْعِیرَ الَّتِی أَقْبَلْنا فِیها
و کانت من مجاز الحذف لا محالۀ. علی خلاف ما مثلنا به من آیات التحریم، إذ لیس فیها مجاز الحذف أصلا.
فلو أردنا التقدیر لکان: .«7» و منه أیضا قوله: وَ لکِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ
. و لکن ذا البرّ من آمن ... أو برّ من آمن. لکنه لیس کذلک، و إنما الجملۀ ( 1) معترك الاقران: ج 1 ص 323
. 2) البقرة: 197 )
. 3) المائدة: 3 )
. 4) النساء: 23 )
. 5) الأنعام: 138 )
. 6) یوسف: 82 )
. 7) البقرة: 177 )
ص: 467
بکاملتها تفسیر و توضیح لعمل البرّ بأنّ من یؤمن باللّه ... الخ، فهذا هو البرّ و العمل الصالح.
أي من قبل الغلب و من بعده، من غیر أن یکون التقدیر ظاهرا و إن کان مرادا واقعا. «1» و قوله: لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ بَعْدُ
و من هذا القبیل جمیع الموارد التی قیل فیها بحذف المبتدأ أو الخبر أو الصفۀ أو الموصوف، و حتی المعطوف أو المعطوف علیه، أو
.«2» حذف جملۀ الشرط أو جملۀ الجزاء. أو حذف المفعول به أو الحال، ممّا فصّله علماء النحو
.« حدّث عن البحر و لا حرج » و یکثر حذف القول من أثناء الکلام بدلالۀ العقول. قال أبو علی: حذف القول من حدّ
صفحۀ 242 من 334
.«4» أي یقولان ربّنا «3» ... و منه قوله تعالی: وَ إِذْ یَرْفَعُ إِبْراهِیمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَیْتِ وَ إِسْماعِیلُ رَبَّنا
فوائد الحذف
منها: مجرّد الاختصار و الاحتراس عن العبث لظهوره.
و منها: التنبیه علی أنّ الزمان یتقاصر عن الإتیان بالمحذوف، و أنّ الاشتغال بذکره یفضی الی تفویت الأهم- کما فی بابی التحذیر و
. تحذیر، بتقدیر: ذروا، ( 1) الروم: 4 « ناقۀ اللّه » ف «5» الإغراء- و قد اجتمعا معا فی قوله تعالی: ناقَۀَ اللَّهِ وَ سُقْیاها
. 2) راجع معترك الأقران: ج 1 ص 324 )
. 3) البقرة: 127 )
. 4) معترك الأقران: ج 1 ص 327 )
. 5) الشمس: 13 )
ص: 468
إغراء، بتقدیر: الزموا. « سقیاها » و
و منها: التفخیم و الإعظام، لما فیه من الایهام. فقد یحذف الشیء و تترك النفس تجول لتعثر علیه بباعث حبّ الاستطلاع، فیدعو ذلک
إلی الاهتمام به.
و لهذا القصد یؤثر الحذف فی مواضع یراد فیها التعجّب و التهویل علی النفوس.
فحذف الجواب لدلالۀ فحوي الکلام علی عظم «1» ... و منه قوله تعالی- فی وصف أهل الجنّۀ-: حَتَّی إِذا جاؤُها وَ فُتِحَتْ أَبْوابُها
الکرامۀ التی یلقونها حینذاك. فقد ضاق الکلام عن الإحاطۀ بذکر تلک الأوصاف.
أي لرأیت أمرا فظیعا لا تکاد تحیط به العبارة. .«2» و کذا قوله- بشأن أهل النار-: وَ لَوْ تَري إِذْ وُقِفُوا عَلَی النَّارِ
.«3» و منها: التخفیف، لکثرة دورانها علی الألسن، کما فی حذف حرف النداء فی قوله تعالی: یُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا
.«4» و منها غیر ذلک حسبما فصّله علماء البیان، فراجع
إیجاز قصر:
و هو ما لا حذف فیه و لا تقدیر، سوي أنه من قلیل اللفظ کثیر المعنی، و یکون نضد الکلمات بحیث لا یوجد بینها لفظ زائد، حتی لو
ازیل لفظ من موضعه أو رفعت کلمۀ أو ابدلت إلی غیرها لاختلّ المعنی و أفاد غیر المقصود و هذا من البلاغۀ بمکان، و قد یبلغ حدّ
الإعجاز کما فی القرآن.
. فممّا جاء منه قوله تعالی: قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَکْفَرَهُ. مِنْ أَيِّ شَیْءٍ خَلَقَهُ ( 1) الزمر: 73
. 2) الأنعام: 27 )
. 3) یوسف: 29 )
.308 - 4) معترك الاقران: ج 1 ص 305 )
ص: 469
.«1» مِنْ نُطْفَۀٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ. ثُمَّ السَّبِیلَ یَسَّرَهُ. ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ. ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ. کَلَّا لَمَّا یَقْضِ ما أَمَرَهُ
تعجّب من إفراطه فی کفران نعم اللّه علیه. «... ما اکفره » : فقوله: قُتِلَ الْإِنْسانُ ... دعاء علیه. و قوله
قال ابن الأثیر: و لا نري اسلوبا أغلظ من هذا الدعاء و التعجّب، و لا أخشن مسّا، و لا أدلّ علی سخط، مع تقارب طرفیه، و لا أجمع
صفحۀ 243 من 334
للأئمۀ، علی قصر متنه.
ثم إنه أخذ فی صفۀ حاله من ابتداء حدوثه إلی منتهی أجله و مآل أمره، فقال: مِنْ أَيِّ شَیْءٍ خَلَقَهُ.
ثمّ بیّن الشیء الذي خلق منه: مِنْ نُطْفَۀٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ أي هیّأه لما یصلح له.
ثُمَّ السَّبِیلَ یَسَّرَهُ أي سهّل سبیله، و هو مخرجه من بطن امّه. أو السبیل الذي یختار سلوکه فی الحیاة من خیر أو شر.
ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ أي جعله ذا قبر یواري فیه.
ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ أي أحیاه لیوم النشور.
ردع لهذا الانسان الکفور العاتی، العاصی لأمر ربّه الکریم. « کلّا »
لَمَّا یَقْضِ ما أَمَرَهُ أي لم یقض مع تطاول عهده بالتکلیف. یعنی أنّ إنسانا لم یخل من تقصیر قطّ.
أ لا تري إلی هذا الکلام الذي لو أردت أن تحذف منه کلمۀ واحدة لما قدرت علی ذلک، لأنک کنت ذهبت بجزء من معناه، و
.23 - لأخللت بأسّ من أسس المقصود. فللّه درّه من کلام و جیز بلیغ. ( 1) عبس: 17
ص: 470
.«1» قال ابن الأثیر: و الإیجاز هو أن لا یمکنک أن تسقط شیئا من ألفاظه
.«2» و الآیات الواردة من هذا الضرب کثیرة کقوله تعالی: فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَۀٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهی فَلَهُ ما سَلَفَ
ما أجمل هذا الکلام و أکمله و أوفاه، فی حین و جازته البالغۀ.
أبلغ ... « فله ما سلف » : فقوله: فَلَهُ ما سَلَفَ من جوامع الکلم، و معناه: أنّ خطایاه الماضیۀ قد غفرت له، و تاب اللّه علیه فیها. إلّا أنّ قوله
أي أنّ السالف من ذنوبه لا یکون علیه إنما هو له أي موهوب له.
.«3» و کذلک ورد قوله: مَنْ کَفَرَ فَعَلَیْهِ کُفْرُهُ
فقوله: فَعَلَیْهِ کُفْرُهُ کلمۀ جامعۀ، تغنی عن ذکر ضروب من العذاب، لأنّ من أحاط به کفره فقد أحاطت به کل خطیئته.
و علی نحو من هذا جاء قوله: إِنَّ اللَّهَ یَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ وَ إِیتاءِ ذِي الْقُرْبی وَ یَنْهی عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْکَرِ وَ الْبَغْیِ یَعِظُکُمْ لَعَلَّکُمْ
.«4» تَذَکَّرُونَ
فهذه الآیۀ من جوامع الآیات الواردة فی القرآن الکریم، الباهرة البالغۀ أعلی درجات الإعجاز، المثیرة للإعجاب!
روي أنّ النبی (صلّی اللّه علیه و آله) قرأها علی الولید بن المغیرة، فقال له: یا ابن أخی أعده. فأعاد النبی (صلّی اللّه علیه و آله) قراءتها
. علیه. فقال له: إنّ له لحلاوة، و إنّ علیه لطلاوة، و إنّ أعلاه لمثمر، و إن أسفله لمغدق، و ما ( 1) المثل السائر: ج 2 ص 348
. 2) البقرة: 275 )
. 3) فاطر: 39 )
. 4) النحل: 90 )
ص: 471
.«1» هو بقول البشر
و من هذا النحو قوله تعالی: وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَ نَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَیْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِیدِ. إِذْ یَتَلَقَّی الْمُتَلَقِّیانِ عَنِ
الْیَمِینِ وَ عَنِ الشِّمالِ قَعِیدٌ. ما یَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَیْهِ رَقِیبٌ عَتِیدٌ. وَ جاءَتْ سَ کْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِکَ ما کُنْتَ مِنْهُ تَحِیدُ. وَ نُفِخَ فِی
الصُّورِ ذلِکَ یَوْمُ الْوَعِیدِ. وَ جاءَتْ کُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَ شَ هِیدٌ. لَقَدْ کُنْتَ فِی غَفْلَۀٍ مِنْ هذا فَکَشَ فْنا عَنْکَ غِطاءَكَ فَبَ َ ص رُكَ الْیَوْمَ
هذه الآیات من قوارع القرآن العجیبۀ- التی دلّت علی تخویف و إرهاب- ترقّ له القلوب و تقشعرّ منه الجلود. و هی «2» حَدِیدٌ
مشتملۀ علی قصرها علی حال الإنسان منذ خلقه إلی حین حشره و حشر غیره من الناس. و تصویر ذلک الیوم الرهیب و الأمر الفظیع،
صفحۀ 244 من 334
فی أسهل لفظ و أرقّ تعبیر. و ما مرّ علیه إنسان مکابد خطایاه إلّا تیقّظ عنده تیقّظا.
و من هذا الضرب
عند موته: اللهمّ ارفع درجته فی المهتدین، و اخلفه فی عقبه فی «3» ورد عن النبی (صلّی اللّه علیه و آله) فی دعائه لأبی سلمۀ
الغابرین، لنا و له یا ربّ العالمین.
. و هذا دعاء جامع بین الإیجاز و بین مناسبۀ الحال التی وقع فیها. فأوّله ( 1) المثل السائر: ج 2 ص 335
.23 - 2) ق: 16 )
3) هو زوج ام سلمۀ رضی اللّه عنها و اسمه عبد اللّه، و امّه برّة بنت عبد المطلب. و کان ممّن هاجر الهجرتین. و جرح یوم أحد، )
فمات منه سنۀ ثلاث من الهجرة.
ص: 472
مفتتح بالمهمّ الذي یفتقر إلیه المدعوّ له فی تلک الحال، و هو رفع درجته فی الآخرة. و ثانیه مردف بالمهمّ الذي یؤثره المدعو له من
صلاح حال عقبه من بعده فی الدنیا. و ثالثه مختم بالجمع بین الداعی و المدعوّ له.
و من الإیجاز بالقصر ما لا یمکن التعبیر عنه بمثل ألفاظه و فی «1» قال ابن الأثیر: و هذا من الإیجاز البلیغ الذي هو طباق ما تقصد له
عدّتها، لا بل یستحیل ذلک عادة، و هو أعلی طبقات الإیجاز و أشرفها و أعزّها شأنا، و لا یوجد مثله فی کلام البلغاء إلّا شاذّا نادرا. قال
.«2» ابن الأثیر: و القرآن الکریم ملآن منه
فقد جمعت الآیۀ جمیع مکارم الأخلاق و القصد فی السلوك الذي هو .«3» قال تعالی: خُذِ الْعَفْوَ وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِینَ
الصراط المستقیم فی الحیاة.
و هذا شأن جلّ آیات الذکر الحکیم، و إن کان قد یرتقی شأن البلاغۀ فی بعضها أوجها فوق أطباق السماء، و قد یتنزّل بعضها إلی
.«5» إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِیا لَعَلَّکُمْ تَعْقِلُونَ «4» آفاق قریبۀ من متفاهم الأعراف، وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَی النَّاسِ عَلی مُکْثٍ وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِیلًا
و من ثم قال رسول اللّه (صلّی اللّه علیه و آله): من شاء یرتع ریاض الأنائق فعلیه بآل حم.
إذ لا یمکن التعبیر عنه إلّا بألفاظ کثیرة- علی ما عرفت فی کلام مسبق-. .«6» و منه قوله تعالی: وَ لَکُمْ فِی الْقِصاصِ حَیاةٌ
. قال ابن الأثیر: و لا یلتفت إلی ما ورد عن العرب: القتل أنفی للقتل. ( 1) المثل السائر: ج 2 ص 337
. 2) المثل السائر: ج 2 ص 333 و 348 و 352 )
. 3) الأعراف: 199 )
. 4) الإسراء: 106 )
. 5) الزخرف: 3 )
. 6) البقرة: 179 )
ص: 473
فإنّ من لا یعلم یظنّ أن هذا علی وزن الآیۀ، و لیس کذلک. بل بینهما فرق من ثلاثۀ أوجه:
ثلاثۀ ألفاظ. « القتل أنفی للقتل » لفظتان. و « القصاص حیاة » الأوّل: أنّ
الثانی: أنّ فی قولهم تکریرا، لیس فی الآیۀ.
الثالث: أنه لیس کل قتل نافیا للقتل، إلّا إذا کان علی حکم القصاص و قد صاغ أبو تمام هذا المعنی الوارد عن العرب فی بعض بیت
من شعره:
و أخافکم کی تغمدوا أسیافکم إنّ الدم المعترّ یحرسه الدم
صفحۀ 245 من 334
و الدم المعترّ: النفس المهدّدة المضطربۀ تخاف هدرها. «1» أحسن ممّا ورد عن العرب « فإنّ قوله: إنّ الدم المعترّ یحرسه الدم
و قد ورد فی الأخبار النبویۀ من هذا الضرب (من الإیجاز البلیغ) شیء کثیر. و إلیک نماذج منه:
فمن ذلک
.«2» قوله (صلّی اللّه علیه و آله): حلال بیّن، و حرام بیّن، و بینهما شبهات
و هذا من أجمع الأحادیث للمعانی الکثیرة. و ذلک أنّه یشتمل علی جلّ الأحکام الشرعیۀ، فإنّ الحلال و الحرام إمّا أن یکون الحکم
فیهما بیّنا لا خلاف فیه بین العلماء، و إمّا أن یکون خافیا یتجاذبه وجوه التأویلات، فکل منهم یذهب فیه مذهبا.
و کذلک جاء
.353 - قوله (صلّی اللّه علیه و آله): الأعمال بالنیّات، و إنّما لکلّ ( 1) المثل السائر: ج 2 ص 352
. 2) عوالی اللئالی: ج 1 ص 89 )
ص: 474
هو من جوامع الکلم و من غرر الکلام. «1» امرئ ما نوي
قال ابن الأثیر: و ممّا أطربنی من ذلک حدیث الحدیبیۀ، و هو أنه جاء بدیل ابن ورقاء إلی النبی (صلّی اللّه علیه و آله) فقال: إنی
و هم مقاتلوك و صادّوك عن البیت. «2» ترکت کعب بن لؤي، معهم العوذ المطافیل
فقال له النبی (صلّی اللّه علیه و آله): إنّ قریشا قد نهکتهم الحرب، فإن شاءوا ماددناهم مدّة، و یدعوا بینی و بین الناس، فإن أظهر
علیهم و أحبّوا أن یدخلوا فیما دخل الناس، و إلّا کانوا قد جمّوا، و إن أبوا، فوالذي نفسی بیده لاقاتلنّهم علی أمري هذا، حتی تنفرد
سالفتی هذه، و لینفذنّ اللّه أمره.
.«3» هذا الحدیث من جوامع الکلم و هو من الفصاحۀ و البلاغۀ علی غایۀ لا ینتهی إلیها وصف الواصفین
و ذکر الشریف الرضی فی نهج البلاغۀ عن مولانا أمیر المؤمنین (علیه السّلام) کلامه التالی: الحجر الغصیب فی الدار رهن علی خرابها
.«4»
ثم قال: و یروي هذا الکلام عن النبی (صلّی اللّه علیه و آله)، و لا عجب أن یشتبه الکلامان لأنّ مستقاهما من قلیب و مفرغهما من
ذنوب.
فلنذکر من جلائل کلامه (علیه السّلام) نتفا:
فما أجمله من استعارة لطیفۀ و أوفاها بهدف «5» قال (علیه السّلام): لنا حقّ فإن أعطیناه و إلّا رکبنا أعجاز الإبل و إن طال السري
المقصود.
. قال الشریف الرضی: و هذا من لطیف الکلام و فصیحه ( 1) عوالی اللئالی: ج 1 ص 81 و 380
2) العوذ: الحدیثات النتاج من الظباء و کل انثی. و المطافیل: جمع مطفل بمعنی من یصحب معه طفله. )
. 3) المثل السائر: ج 2 ص 342 )
. 4) الکلمۀ رقم 237 )
. 5) الکلمۀ رقم 21 )
ص: 475
و معناه: إنّا إذا لم نعط حقّنا لم نکن ممّن یتنکّب الطریق و یعتزل عن جماعۀ المسلمین. بل نشقّ طریقنا إلی الامام مع رکب الجماعۀ،
و إن کنّا فی حالۀ حرجۀ و رکوب مشقّۀ. لأنّ رکوب مؤخّرات الإبل ممّا یشقّ احتماله و الصبر علیه. و إلی هذا یشیر فی خطبته
الشقشقیۀ: فصبرت و فی الحلق شجی و فی العین قذي ... أري تراثی نهبا.
صفحۀ 246 من 334
.«1» و قال (علیه السّلام): لسان العاقل وراء قلبه و قلب الأحمق وراء لسانه
قال الشریف: و هذا من المعانی العجیبۀ الشریفۀ. و المراد: أنّ العاقل لا یطلق لسانه إلّا بعد مشاورة الرویّۀ و مؤامرة الفکرة. و الأحمق
تسبق حذفات لسانه و فلتات کلامه مراجعۀ فکره و مماخضۀ رأیه. فکأنّ لسان العاقل تابع لقلبه، و کأنّ قلب الأحمق تابع للسانه.
.«2» و قال (علیه السّلام): قیمۀ کل امرئ ما یحسنه
. قال الشریف: و هذه الکلمۀ، التی لا تصاب لها قیمۀ، و لا توزن بها حکمۀ، و لا تقرن إلیها کلمۀ ... ( 1) الکلمۀ رقم 40
. 2) الکلمۀ رقم 80 )
ص: 476
التخلّص و الاقتضاب و فصل الخطاب