گروه نرم افزاری آسمان

صفحه اصلی
کتابخانه
شاهنامه فردوسی
جلد چهارم
الإتهام بالشرك والبدعۀ






الإتهام بالشرك والبدعۀ
إنّ أکثر شیء تداولا وأرخصه فی کتب الوهابیین ودعایاتهم هو اتّهام المسلمین بالشرك والبدعۀ، وکأنهم لا یجدون فی کنانتهم شیئاً
یرمون به المسلمین سوي هاتین الفریتین. تري أنّهم یتّهمون جمیع المسلمین من عرب وعجم وسنۀ وشیعۀ بالشرك فی العبادة، وأنه
لیس تحت السماء وفوق أدیم الأرض أُمۀ موحّ دة سوي محمد بن عبدالوهاب وأتباعه . کما أنهم بدل تکریم المسلمین عند اللقاء،
وتهنئتهم بالتسلیم ونشر العطور ونثر الازاهیر علیهم، یتهمونهم بالابتداع، ویسمونهم بالمبتدعۀ. ولأجل ذلک یجب علی کل محقق
وناقد لمزاعم الوهابیین الموروثۀ من ابن تیمیۀ القیام بأمرین مهمین وهما: 1- تحدید العبادة تحدیداً منطقیاً بحیث یکون جامعاً ومانعاً .
-2 تحدید البدعۀ تحدیداً دقیقاً مثل الشرك فی العبادة . ثم القیام بتطبیق ما أوقفه علیه البحث والتنقیب علی ما یصفونه بالشرك
والبدعۀ، حتّی یتبیّن أنّ التطبیق صحیح أولا؟ فها نقدّم إلیک أیّها القاريء الکریم بحثاً ضافیاً حول هذین الموضوعین المهمین، حتّی
( یتّضح الحقّ بأجلی مظاهره، وتقف علی أنّ أکثر من یصفونه بالشرك والبدعۀ خیال وضلال وجهل بحقیقتهما. ( 64
ابن تیمیۀ
ابن تیمیۀ وملاکات التوحید والشرك فی العبادة
إنّ المفتاح الوحید لردّ شُبَهِ الوهابیین هو تحدید العبادة وتمییزها عن غیرها، فما لم یتحدّد مفهموم العبادة بشکل منطقی حتّی تتمیز فی
ضوئه العبادة من غیرها، لم یکن البحث والنقاش ناجحاً، ولأجل ذلک نخ ّ صص هذا الفصل لتعریف العبادة، و نبیّن ما ذکر حولها من
التعاریف. إنّ للتوحید مراتب بیّنها علماء الإسلام فی الکتب الکلامیۀ والتفسیریۀ، ونحن نشیر إلی هذه المراتب علی وجه الإجمال،
ونرکزٌ علی التوحید فی العبادة: الأُولی: التوحید فی الذات، أو التوحید الذاتی، والمراد منه هو: أنه سبحانه واحد لا نظیر له، فرد لا مثیل
له. قال سبحانه: (قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ)( 1) . الثانیۀ: التوحید فی الخالقیۀ، والمراد منه هو: أنّه لیس فی صفحۀ الوجود خالق أصیل غیر اللّه،
ولا مؤثر مستقل سواه، وأنّ تأثیر سائر الأسباب الطبیعیۀ وغیرها بأمره وإذنه وإرادته سبحانه. قال سبحانه: (قُلَ اللّهُ خالِقُ کُلّ شَیء وَ هُوَ
الوَاحِدُ القَهّارُ)( 2) . الثالثۀ: التوحید فی الربوبیۀ والتدبیر، والمراد منه أن للکون مدبّراً واحداً
. 1 . سورة الإخلاص: الآیۀ 1
( 66 ) . 2 . سورة الرعد: الآیۀ 16
ومتصرّفاً فرداً لا یشارکه فی التدبیر شیء آخر، وأنّ تدبیر الملائکۀ وسائر الأسباب بأمره وإذنه، فلم یفوّض أمر التدبیر إلی الأجرام
السماویۀ والملائکۀ والجن. قال سبحانه: (ثُمَّ اسْتَوَي عَلَی العَرش یُدَبِّرُ الأمْرَ مَا مِنْ شَفِیع إلاّ مِنْ بَعْدِ إِذنِهِ ذَلِکُمُ اللّهُ رَبُّکُمْ فَاعْبُدُوهُ أفَلَا
تَذَکَّرُونَ)( 1) . والمراد من الشفیع هو العلل الطولیۀ، وسُمّی بالشفیع لأنّ تأثیره متوقف إلی ضمّ إذنه سبحانه إلیه، والشفع هو الضم،
سمی السبب شفیعاً لأنه یؤثر بانضمام إذنه تعالی . وإذ انتهی إلیه کل تدبیر من دون الاستعانۀ بمعین، أو الاعتضاد بأعضاد، لم یکن
لشیء من الأشیاء أن یتوسط فی تدبیر أمر من الأُمور وهو الشفاعۀ إلاّ من عبد إذنه تعالی، فهو سبحانه السبب الأصلی الّذي لا سبب
بالأصالۀ دونه، وأمّا الأسباب فإنها أسباب بتسبیبه، وشفعاء من بعد إذنه( 2) . الرابعۀ: التوحید فی التشریع والتقنین، والمراد منه حصر
الحاکمیۀ التشریعیۀ فی اللّه فلیس لأحد أن یأمر وینهی ویحرم ویحلل إلاّ اللّه سبحانه. قال تعالی: (إنِ الحُکْمُ إلاّ للّهِ أمَرَ ألاّ تَعْبُدُوا إلاّ
إیّاه)( 3) . الخامسۀ: التوحید فی الطاعۀ، والمراد منه هو: أنه لیس هناك من تجب طاعته بالذات إلاّ اللّه تعالی، فهو وحده الّذي یجب
صفحۀ 32 من 174
أن یطاع، ولو وجبت طاعۀ النبی فإنما هو بإذنه. قال سبحانه (فاتّقوا اللّهَ مَا اسْتَطَعْتُم واسْمَعُوا و أطَیعُوا)( 4) . السادسۀ: التوحید فی
الحاکمیۀ، والمراد منه هو: أن جمیع الناس سواسیۀ، فلا ولایۀ لأحد علی أحد بالذات، بل الولایۀ للّه المالک الخالق، فمن مارس
الحکم فی الحیاة یجب أن یکون بإذنه، قال سبحانه: (إنِ الحُکمُ
. 1 . سورة یونس: الآیۀ 3
. 2 . المیزان ج 10 ، ص 76
. 3 . سورة یوسف: الآیۀ 40
67 ) إلاّ للّهَ یَقُصُّ الحَقّ وَهُوَ خَیْرُ الفَاصلینَ)( 1) . السابعۀ: التوحید فی الشفاعۀ والمغفرة، والمراد منه هو: ) . 4 . سورة التغابن: الآیۀ 16
أن کلا من الشفاعۀ والمغفرة حق مختص به فلا یغفر الذنوب إلاّ هو، ولا یشفع أحد إلاّ بإذنه. قال سبحانه: (وَ مَن یَغْفرُ الذُّنوبَ إلاّ
. ( اللّه)( 2
وقال سبحانه: (مَنْ ذا الّذي یَشْفَعُ عِنْدَهُ إلاّ بِإذنِهِ)( 3) . الثامن: التوحید فی العبادة، وحصرها فی اللّه سبحانه، فلا معبود إلاّ هو، لا
یشارکه فیها شیء، وهذا الأصل مما اتفق علیه الموحدون، فلا تجد موحداً یجوّز عبادة غیر اللّه. إنّما الکلام فی المصادیق والجزئیات،
وأن هذا العمل مثلا (الاستغاثۀ بالأولیاء وطلب الدعاء منهم والتوسل بهم) هل هو عبادة لهم حتّی یحکم علی المرتکب بالشرك، لأنّه
.( عبد غیراللّه، أوْ لا؟ وهذا هو البحث الّذي عقدنا هذا الفصل لبیانه، وما تقدم ذکره من أقسام التوحید کان استطراداً فی الکلام( 4
جاءت لفظۀ العبادة فی المعاجم بمعنی الخضوع و التذلل. قال ابن منظور: أصل العبودیۀ: الخضوع والتذلل، وقال الراغب: العبودیۀ
إظهار
. 1 . سورة الأنعام: الآیۀ 57
. 2 . سورة ال عمران: الآیۀ 135
. 3 . سورة البقرة: الآیۀ 255
4 . إنّ الوهابیۀ تعترف بنوعین من التوحید وهما التوحید الربوبی والتوحید الالوهی، ویفسرون الأول بالتوحید فی الخالقیۀ، والثانی
بالتوحید فی العبادة، وکلا الاصطلاحین خطأ.
أمّا الأول فالمراد من الربوبیۀ هو تدبیر المربوب وإدارته، وأن وظیفۀ الرب الّذي هو بمعنی الصاحب، إدرة مربوبه، کرب الدابۀ والدار
والبستان بالنسبۀ إلیها. فالتوحید فی الربوبیۀ غیر التوحید فی الخالقیۀ، وإن کان ربما تنتهی الربوبیۀ إلی الخالقیۀ.
و أمّا الثانی، أعنی التوحید فی الالوهیۀ فهو مبنیّ علی أن الإله بمعنی المعبود، ولکنه خطأ، بل هو ولفظ الجلالۀ بمعنی واحد، غیر أن
الأول کلّیّ والثانی علم لواحد من مصادیق ذلک الکلّی .
ومن أراد التفصیل فلیرجع إلی مفاهیم القرآن، الجزء الأول ص 432 . وعلی ضوء هذا کلما أطلقنا لفظ الإله أو الالوهیۀ فلا نرید منه إلاّ
( هذا، لا المعبود . ( 68
التذلل، والعبادة أبلغ منها، ولکن هذه التعاریف وأمثالها کتفسیرها بالطاعۀ کما فی القاموس، کلها تفسیر بالمعنی الأعم، فلیس التذلل
وإظهار الخضوع والطاعۀ نفس العبادة، وإلاّ یلزم الالتزام بأُمور لا یصحّ لمسلم أن یلزم بها: 1- یلزم أن یکون خضوع الولد أمام الوالد،
2- یلزم أن یکون . ( والتلمیذ أمام الأُستاذ، والجندي أمام القائد، عبادةً لهم. قال تعالی: (وَاخْفِض لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرحْمَ ۀِ)( 1
3- یلزم . ( سجود الملائکۀ لآدم، الّذي هو من أعلی مظاهر الخضوع، عبادةً لآدم. قال سبحانه: (وَ إذ قُلْنا لِلْمَلائِکَۀِ اسْجُدُوا لآدَمَ...)( 2
أن یکون سجود یعقوب وزوجته وأبنائه لیوسف عبادة له. قال سبحانه: (وَ رَفَعَ أبَوَیْهِ عَلَی العَرشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ یَا أبَتِ هَذَا
4- یلزم أن یکون تذلل المؤمن عبادة له، مع أنه من صفاته الحمیدة، قال تعالی: . ( تَأوِیلُ رُؤْیايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبّی حَقاً)( 3
(فَسَوفَ یَأتِی اللّه بَقَوْم یُحبّهُمْ وَیُحِبُّونَهُ، أذِلَّۀ عَلَی المُؤمِنینَ أعَزّة عَلَی الکَ افِرینَ)( 4) . کل ذلک یدفع بنا إلی القول بأنّ تفسیر العبادة
صفحۀ 33 من 174
بالتذلل والتخضع أو إظهارهما، وبالطاعۀ وما یشابه ذلک تفسیر بالمعنی الأعم، ولا یکون الخضوع ضعیفهُ وشدیدهُ عبادةً إلاّ إذا دخل
فیه عنصر قلبی خاص یمیزه عن مماثلاته ومشابهاته، وهذا العنصر عبارة عن أحد الأمور التالیۀ: 1- الاعتقاد بألوهیۀ المعبود .

. 1 . سورة الإسراء: الآیۀ 24
. 2 . سورة البقرة: الآیۀ: 34
. 3 . سورة یوسف: الآیۀ 100
( 69 ) . 4 . سورة المائدة: الآیۀ 54
-2 الاعتقاد بربوبیته . 3- الاعتقاد باستقلاله فی الفعل من دون أن یستعین بمعین أو یعتمد علی معاضد. إنّ هذه العبارات الثلاثۀ
تهدف إلی أمر واحد، وهو أنّ مقوّم العبادة لیس هو ظواهر الأفعال وصورها، بل مقومها هو باطن الأعمال ومناشئها، والخضوع الّذي
ینبعث عن اعتقاد خاص فی حق المعبود، وهو: إمّا عبارة عن الاعتقاد بألوهیۀ المعبود، سواء أکانت ألوهیۀ حقیقیۀ أم الوهیۀ کاذبۀ
مدّعاة، فاللّه سبحانه إله العالم وهو الإله الحقیقی الّذي اعترف به کل موحد علی وجه الأرض، کما أنّ الأوثان والأصنام آلهۀ مدّعاة
اعتقد بألوهیتها عبدتها والعاکفون علیها، فاللّه سبحانه عند المشرکین کان إلهاً کبیراً وهؤلاء آلهۀ صغیرة، وزّعت شؤون الإله الکبیر
علیهم. أو عبارة عن الاعتقاد بربوبیۀ المعبود، وأنّه المدبّر والمدیر بنفسه. أو عبارة عن الاعتقاد باستقلال الفاعل فی فعله وإیجاده، سواء
أکان مستقلا فی وجوده وذاته کما هو شأن الإله الکبیر عند المشرکین، أم غیر مستقل فی ذاته ومخلوقاً للّه سبحانه، ولکنه یملک
شؤونه سبحانه من المغفرة والشفاعۀ، أو التدبیر والرزق أو الخلق، إلی غیر ذلک مما هو من شؤونه سبحانه، والمراد من تملّکه بعض
هذه الشؤون أو کلها، هو استقلاله فی ذلک المجال، فکأنه سبحانه فوضها إلیه وتقاعد هو عن العمل . هذه هی الملاکات الّتی تضفی
علی کل خضوع خفیف أو شدید، لون العبادة وتمیزه عن أي تکریم وتعظیم للغیر. وفی الآیات القرآنیۀ إلماعات إلی هذه القیود الّتی
ترجع حقیقتها إلی أُمور ثلاثۀ: أمّا الأول: فإلیک بعض الآیات: قال سبحانه: (أمْ لَهُم إلهٌ غَیْرُ اللّه، سُبْحانَ اللّه عمّا یُشرِکُونَ)( 1) فقد
جعل فی هذه الآیۀ اعتقادهم بألوهیۀ
( 70 ) . 1 . سورة الطور: الآیۀ 43
غیر اللّه هو الملاك للشرك. یقول سبحانه: (إنّهم کانُوا إذا قیلَ لَهُم لا إله إلاّ اللّه یستَکبرون)( 1) أي إنّهم یرفضون هذا الکلام لأنّهم
یعتقدون بألوهیۀ معبوداتهم، ویعبدونها بما أنّها آلهۀ حسب تصورهم، ولأجل تلک العقیدة السخیفۀ، قال تعالی: (إذا دُعیَ اللّه وَحْدَهُ
کَفَرْتُم وَإنْ یُشْرَك بِهَ تُؤمِنُوا فالحُکْمُ للّهَ العلیّ الکَ بیر)( 2) . وقال سبحانه: (وَإذا ذُکِرَ اللّهُ وَحْدَهُ اشْمأزَّتْ قُلُوبُ الَّذینَ لا یُؤْمِنُونِ
بالآخِرَةِ وَ إذا ذُکِرَ الّذینَ مِنْ دُونِهِ إذا هُمْ یَسْتَبشِرُونَ)( 3) . والآیات فی هذا المجال وافرة جداً لا حاجۀ لنقلها، ومن تدبّر فی هذه
الآیات یري أن التندید بالمشرکین لأجل اعتقادهم بألوهیۀ أصنامهم وأوثانهم. قال سبحانه: (الذینَ یَجْعَلُونَ مَعَ اللّهِ إلهاً آخَرَ فَسَوْفَ
یَعْلَمُونَ)( 4) . وأما الثانی: أي کون الاعتقاد بالربوبیۀ مؤثراً فی إضفاء طابع العبادة علی الخضوع، فیکفی قوله سبحانه: (یا أیُّها الناس
اعْبُدُوا ربَّکُمُ الّذي خَلَقَکُم والَّذینَ مِنْ قَبْلِکُم)( 5) . وقال تعالی: (ذَلِکُمُ اللّهُ رَبُّکم لا إلهَ إلاّ هُوَ خَالِقُ کُلّ شیء فَاعْبُدُوه)( 6) . فتعلیل
فی الآیۀ الثانیۀ، یعرب عن أن الدافع إلی العبادة هو « ربکم وخالق کلّ شیء » فی الآیۀ الأُولی أو « ربکم » لزوم العبادة بکونه سبحانه
ذلک الاعتقاد، وبالتالی ینتج أنه لا یتصف الخضوع بصفۀ العبادة إلاّ إذا اعتقد الإنسان أن المخضوع له خالق ورب أو ما یقاربه،
ولأجل ذلک نري أنه سبحانه
. 1 . سورة الصافات: الآیۀ 35
. 2 . سورة غافر: الآیۀ 12
. 3 . سورة الزمر: الآیۀ 45
صفحۀ 34 من 174
. 4 . سورة الحجر: الآیۀ 96
. 5 . سورة البقرة: الآیۀ 21
( 71 ) . 6 . سورة الأنعام: الآیۀ 102
ینفی صلاحیۀ من فی السماوات والأرض لأن یکون معبوداً لأجل أنهم عباد الرَّحمن، قال: (إن کُلّ مَنْ فی السّمواتِ والأرْضِ إلاّ آتی
الرّحمنِ عَبْداً)( 1)، فلیسوا أرباباً لیدبّروا أُمورهم، ولا خالقین لیخلقوهم . نعم، الاعتقاد بالربوبیۀ ینحل إلی الاعتقاد بأنه یملک شؤون
العابد، إمّا فی جمیع الجهات کما هو الحال فی إله العالم عندن الموحدین، أو بعض الشؤون کالشفاعۀ والمغفرة، أو قضاء الحوائج
ورفع النوازل، کما هو الحال فی الآلهۀ الکاذبۀ عند المشرکین، ولأجل ذلک نري أنه سبحانه ینفی عن معبوداتهم کونهم مالکین
لکشف الضر. قال: (لَا یَمْلِکُونَ لاِنفُسِهِم نَفْعاً وَ لا ضرّاً)( 2)، وقال تعالی: (لا یَمْلِکُونَ کَشْف الضُّرّ عَنْکُمْ وَ لا تَحْویلا)( 3) وقال: (لا
یَمْلُکون عَنِ الشّ فاعۀ إلاّ مَنِ اتّخَ ذَ عِنْدَ الرّحْمنِ عَهْداً)( 4) . وقال: (إنّ الذینَ تَعْبُدونَ مِنْ دُونِ اللّهِ لا یَمْلِکُونَ لَکُم رِزْقاً)( 5) إلی غیر
ذلک من الآیات الّتی بتاتاً، تملّک معبوداتهم المدعاة شیئاً من شؤونه سبحانه . وهذا یعرب عن أنّ وجه اتّصاف خضوعهم بالعبادة
ودعائهم لها، هو اعتقادهم بأنهم أرباب یملکون ما ینفع فی حیاتهم عاجلا أو آجلا، ویؤید ذلک ما کانوا یرددون فی ألسنتهم حین
الطواف والسعی ویقولون: لبّیک اللّهمّ لبّیک، لبّیک لا شریک لک إلاّ شریک هو لک، تملکه وما ملک . وأما الثالث: وهو الاعتقاد
بکون المخضوع له مستقلا إمّا فی ذاته وفعله، أو فی فعله فقط، الإلماع إلیه فی غیر موضع من کتاب اللّه العزیز، وهو توصیفه سبحانه
بالقیوم، قال سبحانه: (اللّه لا إله إلاّ هُوَ الحَیُّ
. 1 . سورة مریم: الآیۀ 93
. 2 . سورة الرعد: الآیۀ 16
. 3 . سورة الإسراء: الآیۀ 56
. 4 . سورة مریم: الآیۀ 87
72 ) القَیُّومُ)( 1) وقال: (وَعَنَتِ الوُجوهُ للحیِّ القَیُّومِ)( 2) والمراد منه هو الموجود القائم بنفسه، لیس ) . 5 . سورة العنکبوت: الآیۀ 17
فیه شائبۀ من الفقر والحاجۀ، وأنّ کل ما سواه قائم به، ومن المعلوم أن القائم بنفسه والغنی فی ذاته، غنی فی فعله عن غیره، فلو استغثنا
بأحد باعتقاد أنه یملک کشف الضر عنّا فقد طلبنا فعل اللّه سبحانه من غیره، لأنه تعالی وحده الّذي یملک کشف الضر لا غیره،
والغنی فی الفعل هو اللّه سبحانه، فلو أقمنا موجوداً آخر مکان اللّه سبحانه فی مجال الإیجاد، وزعمنا أنه یخلق ویرزق ویدبّر الأُمور، أو
أنه یغفر الذنوب ویقضی الحاجات من عند نفسه، أو بتفویض من اللّه سبحانه واعتزاله عن الساحۀ، فقد وصفناه بالربوبیۀ أولا (التعریف
الثانی) ولو زعمنا أنه قائم بنفس الفعل الّذي یقوم به سبحانه ثانیاً فکأننا أعطینا غیره صفۀ من صفاته سبحانه، وهی القیومیۀ ولو فی
مجال الإیجاد (التعریف الثالث) .
هذا وللتفویض شؤون واسعۀ: منها تفویض اللّه تدبیر العالم إلی خیار عباده من الملائکۀ والأنبیاء والأولیاء، ویسمی بالتفویض التکوینی
. ومنها تفویض الشؤون الإلهیۀ إلی عباده کالتقنین والتشریع والمغفرة والشفاعۀ ویسمی بالتفویض التشریعی . وهذا هو الذکر الحکیم
یصف أهل الکتاب بأنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون اللّه یقول: (اتّخَذوا أحْبَارَهُم وَ رُهْبانَهُم أرباباً مَنْ دُون اللّه والمَسیحَ
ابنَ مَرْیَمَ وَمَا أُمِروا إلاّ لِیَعْبُدُوا إلهاً واحِداً لا إله هُوَ سُبْحانَهُ عمّا یُشرِکُون)( 3) . إنّ أهل الکتاب لم یعبدوهم من طریق الصلاة والصوم
لها، وإنما
. 1 . سورة البقرة: الآیۀ 255
. 2 . سورة طه: الآیۀ 111
( 73 ) . 3 . سورة التوبۀ: الآیۀ 31
صفحۀ 35 من 174
أشرکوهم فی تفویض أمر التشریع والتقنین إلیهم، وزعموا أنهم یملکون شأناً من شؤونه سبحانه. قال الإمام الصادق علیه السَّلام :
1). روي الثعلبی فی تفسیره: عن عدي بن )« واللّه ما صَ امُوا لَهُم، وَ لاَ صَ لُّوا لَهُم، وَلَکِن أحَلُّوا حَرَماً وَ حَرّموا عَلَیْهِم حَلَالا فاتّبعوهم »
قال: فطرحته، ثم انتهیت إلیه « یا عدي، اطرح هذا الربق من عنقک » : حاتم قال: أتیت رسول اللّه وفی عنقی صلیب من ذهب، فقال لی
وهو یقرأ هذه الآیۀ: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً) حتّی فرغ منها، فقلت: إنّا لسنا نعبدهم، فقال: ألیس یحرّمون ما أحلّه اللّه،
فتحرّمونه، ویحلّون ما حرّم الله فتستحلّونه؟ قال: فقلت: بلی. قال: فتلک عبادة( 2) . وفی ضوء هذا البحث الضافی تستطیع أن تمیّز العبادة
عن غیرها، والتعبّد عن التکریم، والخضوع العبادي عن التعظیم العرفی وتقف علی أنّ سجود الملائکۀ لآدم، ویعقوب وزوجته وأبنائه
لیوسف، لم تکن عبادة قط، وما هذا إلاّ لأن خضوعهم لم یکن نابعاً عن الاعتقاد بألوهیتهما أو ربوبیتهما، أو أنهما یملکان شؤون اللّه
سبحانه، کلها أو بعضها، ویقومان بحاجۀ المستنجد بنفسهما وذاتهما. ومما یؤید أنّ خضوع المشرکین أمام أوثانهم وأصنامهم کان
ممزوجاً بالاعتقاد بکونهم آلهۀ صغیرة، أو أرباباً، وموجودات تملک شؤون الرب أو بعضها، أنهم کانوا یصفونها بأنها أنداد للّه
سبحانه. قال سبحانه: (وَ مِنَ النّاسِ مَنْ یَتَّخِذُ مِنْ دُونَ اللّه أنْداداً یُحِبُّونَهُم کَحُبّ اللّه)( 3) ولما زعموا أن معبوداتهم المصطنعۀ، تستجیب
دعاءهم وتشفع لهم مثله، عادوا یحبّونها کحب اللّه، ویذکر فی آیۀ أُخري أنّ المشرکین کانوا یسوّون آلهتهم بربّ العالمین.

. 1 . الکافی ج 1 ص 53
. 2 . مجمع البیان ج 3 ص 23 والبرهان فی تفسیر القرآن ج 2 ص 120
( 74 ) . 3 . سورة البقرة: الآیۀ 165
قال سبحانه: (تاللّه إنْ کُنّا لَفِی ضَلال مُبین * إذْ نُسَوّیکُمْ بِرَبّ العَالمین)( 1) . والمراد هو التسویۀ فی شؤونه سبحانه جمیعها أوبعضها،
وأمّا التسویۀ فی العبادة فکانت من شؤون ذلک الاعتقاد، فإنّ العبادة خضوع من الإنسان للمعبود، فلا تتحقق إلاّ أن یکون هناك
إحساس من صمیم ذاته بأن للمعبود سیطرة غیبیۀ علیه، یملک شؤونه فی حیاته، وکان المشرکون فی ظل هذه العقیدة یسوّون أوثانهم
برب العالمین. وبالتالی یعبدونهم. ولیس المراد من التسویۀ هو التسویۀ فی خصوص توجیه العبادة، إذ لم یعهد من المشرکین
المتواجدین فی عصر الرسول توجیه العبادة إلی اللّه، ویؤید ذلک: أنّ الوثنیۀ دخلت مکۀ ونواحیها أول ما دخلت بصورة الشرك فی
الربوبیۀ، وفی ذلک یکتب ابن هشام: کان عمرو بن لحی أول من أدخل الوثنیۀ إلی مکۀ ونواحیها، فقد رأي فی سفره إلی البلقاء من
قالوا: هذه أصنام نعبدها «؟ ما هذه الأصنام الّتی أراکم تعبدونها » : أراضی الشام أُناساً یعبدون الأوثان، وعندما سألهم عما یفعلون بقوله
فنستمطرها فتمطرنا، ونستنصرها فتنصرنا. فقال لهم: أفلا تعطوننی منه فأسیر به إلی أرض العرب فیعبدون؟!. ثم إنّه استصحب معه إلی
مکۀ صنماً کبیراً باسم (هبل)، ووضعه علی سطح الکعبۀ المشرفۀ ودعا الناس إلی عبادتها( 2)، فطلب المطر من هذه الأوثان یکشف عن
اعتقادهم بأن لهذه الأوثان دخلا فی تدبیر شؤون الکون وحیاة الإنسان. الوهابیون وملاکات التوحید و الشرك
ثم إنّ الوهابیین لما لم یضعوا للعبادة حدّاً منطقیاً تتمیّز به عن غیرها،
. 1 . سورة الشعراء: الآیۀ 97 98
( 75 ) . 2 . سیرة ابن هشام ج 1 ص 79
عمدوا إلی وضع ملاکات للعبادة، عجیبۀ جداً، وهی مبثوثۀ فی کتبهم وثنایا دعایاتهم وهی: 1- الاعتقاد بالسلطۀ الغیبیۀ . 2- الاعتقاد
بأن المدعو یقضی حاجته بسبب غیر عادي . 3- طلب الحاجۀ من المیت . 4- طلب الحاجۀ مع کون المطلوب منه عاجزاً . إلی غیر
ذلک من المعاییر الّتی لا تمت إلی التوحید والشرك بصلۀ أبداً ولکون هذه الملاکات تدور علی ألسنتهم و تتکرر فی کتبهم، نرکّز
علی هذه المعاییر وأشباهها لنخرج بنتیجۀ قطعیۀ، وهی أنّ الملاك فی تمییز التوحید عن الشرك أمر واحد وهو الاعتقاد بالألوهیۀ
والربوبیۀ، أو کون الفاعل مستقلا ومفوضاً إلیه الأمر، وأمّا هذه المعاییر فکلها معاییر عرضیۀ، بل لا تمت إلی مسألۀ العبادة بصلۀ أصلا،
صفحۀ 36 من 174
بل کل منها یوصف بالتوحید علی وجه، وبالشرك علی آخر، وإلیک البیان: 1- هل الاعتقاد بالسلطۀ الغیبیۀ معیار للشرك ؟
إنّ التصوّر الّذي » : إنّ هناك من یتصور أن الاعتقاد بالسلطۀ الغیبیۀ فی المدعو یلازم الاعتقاد بکونه إلهاً. یقول الکاتب المودودي »
لأجله یدعو الإنسان الإله ویستغیثه ویتضرّع إلیه هو لا جرم تصور کونه مالکاً للسلطۀ المهیمنۀ علی الطبیعۀ، وللقوي الخارجۀ عن
1) وهذا الکلام صریح فی أنّه جعل الاعتقاد بهذه السلطۀ ملازماً للاعتقاد بالألوهیۀ، وعلی ضوء ذلک فکل )« دائرة نفوذ قوانین الطبیعۀ
من اعتقد فی واحد من الصالحین بأنّ له تلک السلطۀ فهو معتقد بألوهیته، فیصبح دعاؤه عبادة، والداعی عابداً له . وهو مردود من
وجهین:
76 ) أولا: إنّ التصور الّذي لأجله یدعو الإنسان الإله، لا ینحصر فی تصوّر کونه مالکاً للسلطۀ ) . 1 . المصلطحات الأربعۀ ص 17
المهیمنۀ علی قوانین الطبیعۀ، بل یکفی الاعتقاد بکونه مالکاً للشفاعۀ والمغفرة، کما کان علیه فریق من عرب الجاهلیۀ، إذ کانوا
یعتقدون فی شأن أصنامهم بأنّها آلهتهم لأنّها تملک الشفاعۀ والمغفرة، وهو غیر القول بوجود السلطۀ علی عالم التکوین، وبذلک
یظهر الضعف فی کلام آخر له، حیث یقول:
1). والحال أنّ الإعتقاد بالألوهیۀ أعمّ من الاعتقاد بالسلطۀ، فلو افترضنا أن الاعتقاد )« إنّ کلا من السلطۀ والألوهیۀ تستلزم الأُخري »
بالسلطۀ یستلزم الألوهیۀ، ولکن الاعتقاد بالألوهیۀ لا یستلزم الاعتقاد بالسلطۀ، بل یکفی أن یعتقد أنّ المدعو یملک مقام الشفاعۀ
والمغفرة، أو شأناً من شؤونه سبحانه . وثانیاً: إنّ الاعتقاد بالسلطۀ إنّما یستلزم الاعتقاد بالألوهیۀ إذا کان ینطوي علی الاعتقاد بأنّه
فوّضت إلیه تلک السلطۀ تفویضاً، بحیث یقوم بأعمالها باختیاره من دون استئذان من اللّه سبحانه واعتماد علیه، وعلی ضوء ذلک لا
یکون الاعتقاد بها إذا کان إعمال تلک السلطۀ بإذن اللّه ملازماً للاعتقاد بالألوهیۀ، وإلاّ وجب أن لا نسجّل أحداً من المسلمین
المعتقدین بالقرآن فی دیوان الموحدین، فإنّه یثبت لیوسف وموسی وسلیمان والمسیح، بل لأناس آخرین لیسوا بأنبیاء سلطۀ غیبیۀ. هذا
قوله سبحانه فی قصۀ سلیمان: (قال یَا أیُّها المَلأ أیُّکُم یَأتِینی بِعَرْشِها قَبْلَ أن یَأتُونی مُسلِمینَ * قال عِفْریتٌ مِنَ الجنّ أنا آتِیکَ بِهِ قَبْلَ
أن تَقُومَ مِنْ مَقامِکَ وَإِنّی عَلَیْهِ لَقَوِيٌّ أمینُ * قَالَ الّذي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الکِتابِ أنَا آتِیکَ بِهِ قَبْلَ أنْ یَرْتَدَّ إلَیْک طَرْفُکَ فَلَمّا رَآه مُستَقرّاً
.( عَندَهُ قَالَ هَذَا مَنْ فَضلَ رَبّی لِیَبْلُونی أأشْکُرُ أم أکْفُرُ وَمَنْ شَ کَرَ فإنَّما یَشْکُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ کَفَرَ فَإنَّ رَبَّی غَنِیٌّ کَرِیمٌ)( 2

. 1 . المصلطحات الأربعۀ ص 30
( 77 ) . 2 . سورة النمل: الآیۀ 38 40
ولا یرتاب أحد فی أنّ سلیمان سأل ما سأل بعد اعتقاده بکونهم أصحاب السلطۀ الغیبیۀ، أفیصح للمودودي أن یرمی ذلک النبی العظیم
بما لا یلیق بساحته، بل لا یحتمل فی حقه؟ . إنّ الذکر الحکیم یثبت لسلیمان نفسه سلطۀ غیبیۀ، وأنّه کان له سلطۀ علی الجن والطیر
حتّی أصبحا من جنوده، کما یقول: (وَحُشِرَ لِسُلَیْمانَ جُنودُهُ مِنَ الجِنّ وَ الإنسِ وَ الطّیرِ...)( 1). وکانت له السلطۀ علی عالم الحیوانات
حتّی أنّه کان یخاطبهم ویطلب منهم تنفیذ أوامره، کما یقول: (وَ تَفَقَّدَ الطّیرَ فَقالَ مَالیَ لا أرَي الهُدْهُدَ أم کَانَ مِنَ الغَائَبینَ * لاُعذِّبَنَّهُ
عَذَاباً شَدیداً أو لَأذْبَحَنَّهُ أوْ لَیَأتِیَنیّ بِسُلطان مُبین)( 2)، وکانت له السلطۀ علی الجن، فکانوا یعملون بأمره وإرادته، کما یقول: (وَ مِنَ
یمانَ الرّیحَ 􀂥 الجنّ مَنْ یَعْمَلُ بَیْنَ یَدَیْهِ بَإذْنِ رَبَّهِ... یَعْمَلُونَ لَهُ مَا یَشاءُ...)( 3)، وکانت له السلطۀ علی الریح أیما تسلیط کما یقول: (وَ لِسُلَ
. ( عاصَفَۀً تَجْرِيَ بأَمْرِهِ)( 4
وعلی أيّ تقدیر فایّۀ سلطۀ أعظم وأوضح من هذه السلطۀ الّتی کانت لسلیمان؟ والجدیر بالذکر أنّ بعض الآیات صرحت بأنّ کل هذه
الأُمور غیر العادیۀ کانت تتحقق بأمره . هذا ما ذکره القرآن فی حق سلیمان، وقد ذکر نظیره فی حق غیر واحد من الأنبیاء، لاحظ
الآیات( 5) فکیف یکون الاعتقاد بالسلطۀ الغیبیۀ المهیمنۀ علی الطبیعۀ علی وجه الإطلاق ملازماً للاعتقاد بالألوهیۀ ؟

صفحۀ 37 من 174
. 1 . سورة النمل: الآیۀ 17
. 2 . سورة النمل: الآیۀ 20 21
. 13 - 3 . سورة سبأ: الآیۀ 12
. 4 . سورة الأنبیاء: الآیۀ 81
5 . سورة یوسف: الآیۀ 93 96 ، سورة الشعراء: الآیۀ 63 ، سورة البقرة: الآیۀ 60 (فی حق موسی)، سورة آل عمران: الآیۀ 49 (فی حق
2- هل طلب قضاء الحاجۀ بأسباب غیر طبیعیۀ معیار للشرك ؟ ( المسیح)، سورة المائدة: الآیۀ 110 (فی حقه أیضاً) . ( 78
یري المودودي ان التوسل بالأسباب الطبیعیۀ لیس بشرك، أمّا طلب الحاجۀ وإنجازها بأسباب غیرها فهو یلازم الشرك. یقول: فالمرء
إذا کان أصابه العطش فدعا خادمه وأمره بإحضار الماء، لا یطلق علیه حکم الدعاء، ولا أن الرجل اتخذ إلهاً، وذلک أنّ کل ما فعله
الرجل جار علی قانون العلل والأسباب، ولکن إذا استغاث بولیّ فی هذا الحال فلا شک أنّه دعاه لتفریج الکربۀ واتّخذه إلهاً، فکأنّی به
یراه سمیعاً بصیراً، ویزعم أنّ له نوعاً من السلطۀ علی عالم الأسباب مما یجعله قادراً علی أن یقوم بإبلاغه الماء، أو شفائه من
المرض( 1) . أقول: إنّ ما ذکره صورة أُخري للمعیار الأول، وکلاهما وجهان لعملۀ واحدة، فإنّ طلب التوسل بالأسباب غیر الطبیعیۀ لا
ینفک عن الاعتقاد بکونه مالکاً للسلطۀ المهیمنۀ علی قوانین الطبیعۀ . یلاحظ علیه: أنّ المودودي تصوّر أنّ طلب التوسل بالأسباب
الطبیعیۀ لیس بشرك، وإنّما الشرك هو طلب التوسل بغیرها. والحال أنّ کلا منهما علی وجهین: فلو تصوّر أنّ القائم بعمل علی وفق
الأُصول الطبیعیۀ، إنّما یقوم به عند نفسه وباقتدار مستقل من دون اعتماد علی اقداره سبحانه واستئذان منه، فقد اعتقد بألوهیته وطلب
فعل الإله من غیره، وأمّا إذا اعتقد أنّ الخادم یحضر الماء بقدرة مکتسبۀ واستئذان منه فهو نفس التوحید. ومثله الکلام فی الأسباب غیر
الطبیعیۀ، فلا شک أنّ أُمۀ المسیح کانوا یعتقدون فی حقه بعدما رأوا الآیات والمعجزات منه أنّ له سلطۀ غیبیۀ، وکانوا یسألونه إبراء
مرضاهم وإحیاء موتاهم، أفهل یتصوّر أنّ سؤالهم هذا کان شرکاً؟ وأنّ المسیح کان مجیباً لدعوتهم الشرکیۀ؟! فمن ذا الّذي یسمع
قول المسیح بین بنی إسرائیل: (أنّی أخْلُقُ لَکُمْ مِنَ الطّینِ کَهَیئَۀِ الطّیرِ فَأنْفُخُ فِیْهِ فَیَکُونُ طَیراً بإذنِ اللّهِ و أُبْرَيءُ الأکْمَهَ والأبْرَصَ و أُحیِ
المَوْتی بِإذنِ اللّهِ وأُنَبِّئُکُم بِما تَأکُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِی
. ( 79 ) بُیُوتِکُم إنَّ فی ذَلِکَ لآیۀً لَکُمْ إنْ کُنْتُم مُؤمِنینَ)( 1 ) . 1 . المصطلحات الأربعۀ ص 30
فَمَنْ ذا الّذي یسمع کلامه هذا ولا یعتقد بسلطته الغیبیۀ؟ ولا یسأله کشف الکرب والملمات بإذنه سبحانه؟ أفیصح للمودودي أن
یتّهم أُمۀ المسیح وفیهم الحواریون الذین أُنزلت علیهم مائدة من السماء ومدحهم سبحانه فی الذکر الحیکم( 2)بالشرك ؟ هذا هو
( الذکر الحکیم ینقل عن السامري قوله: (بَصُ رْتُ بِما لَمْ یِبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَۀً مِنْ أثَرِ الرّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَ کَذَلِکَ سَوَّلَتْ لی نَفْسی)( 3
. وهو یعطی أنّ السامري توسّل بالتراب المأخوذ من أثر الرسول، وکان له أثر خاص فی إخراج العجل الّذي کان له خوار. فلو اعتقد
المسلم تبعاً للقرآن بأنه توسل باسباب غیر طبیعیۀ لإضلال قومه، فهل یصحّ اتهامه بالشرك؟ . وبالجملۀ: لیس الاعتقاد بالسلطۀ
الغیبیۀ فی مقابل الاعتقاد بالسلطۀ العادیۀ، کما ولیس التوسل بالأسباب غیر العادیۀ فی مقابل التوسل بالأسباب العادیۀ، معیارین للتوحید
والشرك، بل کل واحد منهما یمکن أن یقع علی وجهین، فعلی وجه یوافق الأُصول التوحیدیۀ، وعلی آخر یخالفها . 3- هل الموت
والحیاة ملاکان للتوحید والشرك؟ .
یظهر من الوهابیین أنهم یجوّزون استغاثۀ الأحیاء، وفی الوقت نفسه یرون استغاثۀ الأموات شرکاً. یقول محمد بن عبدالوهاب: وهذا
جائز فی الدنیا والآخرة أن تأتی رجلا صالحاً تقول له: ادع اللّه لی، کما کان أصحاب الرسول صلَّی الله علیه وآله وسلم یسألونه فی
. ( حیاته، وأمّا بعد مماته فحاشا وکلّا أن یکونوا سألوا ذلک، بل أنکر السلف علی من قصد دعاء اللّه عند قبره، فکیف بدعاء نفسه( 4

. 1 . سورة آل عمران: الآیۀ 49
صفحۀ 38 من 174
. 2 . سورة المائدة: الآیۀ 115 وسورة الصف: الآیۀ 14
. 3 . سورة طه: الآیۀ 96
( 80 ) . 4 . کشف الشبهات طبع مصر ص 70
عجیب جداً أن یکون عمل محدد ومشخّص إذا طلب من الحی، نفس التوحید، وإذ طلب من المیت یکون عین الشرك. إنّ القرآن
ینقل عن بعض شیعۀ موسی ویقول: (فاسْتَغَاثَهُ الّذي مِنْ شِیَعتِه عَلَی الّذي من عَدوِّهِ فَوَکَزَهُ مُوْسی فَقَضی عَلَیْهِ)( 1)فنفس هذه الاستغاثۀ
فی حال الحیاة، یتصور علی وجهین، یحکم علی أحدهما أنه موافق لأصول التوحید، وعلی الآخر بخلافها!! إنّ هذه الاستغاثۀ إنما
تکون علی وفق التوحید إذا اعتقد أنّ موسی فی حال حیاته یقوم بالاغاثۀ بقدرة مکتسبۀ وإذن منه سبحانه، ولو اعتقد بأصالته فی إغاثۀ
المستغیث فقد اعتقد بألوهیته، فإذا کان هذا هو المعیار فی الاستغاثۀ من الحی، فلیکن هذا هو المعیار عند الاستمداد بالأرواح المقدسۀ
العالمۀ الشاعرة حسب أخبار القرآن (أو الأموات) علی زعم الوهابیین . فلو فرضنا أنّ أحداً من شیعۀ موسی استغاث به بعد خروج
روحه الشریف عن بدنه علی نحو الاستغاثۀ الأُولی، فهل یتصوّر أنّه أشرك باللّه؟ وأنّه عبد موسی لاعتقاده أنّه یغیث المستغیث حیاً
ومیتاً؟ . ولو کانت حیاة المستغاث ومماته معیاراً، فإنّما یصحّ أن یکون معیاراً فی الجدوائیۀ وخلافها، لا فی الشرك و التوحید. وبذلک
و من أنواع الشرك طلب الحوائج من الموتی والاستغاثۀ بهم والتوجه إلیهم، » : تقف علی ضعف کلام تلمیذ ابن تیمیۀ حیث یقول
2) . یلاحظ علیه: أنّ ما ذکره من الدلیلین لا )« وهذا أصل شرك العالم، فإنّ المیت قد انقطع عمله، وهو لا یملک لنفسه ضراً ولا نفعاً
علی فرض صحته، یثبت عدم الفائدة فی « فإنّ المیت قد انقطع عمله » : یثبت مدّعاه، لأنّ قوله
. 1 . سورة القصص: الآیۀ 15
( 2 . فتح المجید، تألیف حفید الشیخ محمد بن عبدالوهاب ص 67 الطبعۀ السادسۀ . ( 81
فهو جار فی الحی والمیت، فلیس فی صفحۀ الوجود من « ولا یملک نفسه ضراً ولا نفعاً » : الاستغاثۀ بالمیت، لا انّه شرك، وأمّا قوله
یملک لنفسه شیئاً، فإنما یملک بإذنه وإراته سواء أکان حیاً أم میتاً، ومع الإذن الإلهی یقدرون علی إیصال النفع والضر أحیاءً وأمواتاً.
هذا کلام التلمیذ، فهلمّ ندرس کلام أُستاذه ابن تیمیۀ وهو یقول: کل من غلا فی نبی أو رجل صالح وجعل فیه نوعاً من الإلهیۀ وجعل
یقول: یا سیدي فلان أنصرنی وأغثنی... فکل هذا شرك وضلال یستتاب صاحبه، فإن تاب، وإلاّ قتل( 1) . یلاحظ علیه: أنّ الإستغاثۀ
بالأموات حسب تعبیر الوهابیین، أو الأرواح المقدسۀ حسب تعبیرنا إذا کانت ملازمۀ للاعتقاد بنوع من الألوهیۀ، یلزم أن تکون
الاستغاثۀ بالأحیاء ملازمۀً لذلک، لأنّ حیاة المستغاث ومماته حدّ لجدوائیۀ الاستغاثۀ وعدمها، ولیس حداً للتوحید والشرك، فی حین
والذین یدعون مع » : أنّ الاستغاثۀ بالحی تعد من أشد الضروریات للحیاة الاجتماعیۀ . وهناك کلام آخر له هلم معی نستمع إلیه یقول
اللّه ألهۀ أخري مثل المسیح والملائکۀ والأصنام لم یکونوا یعتقدون أنّها تخلق الخلائق، أو تنزل المطر، وإنّما کانوا یعبدونهم أو
2) . إنّ قیاس استغاثۀ المسلمین )« یعبدون قبورهم، أو یعبدون صورهم ;یقولون: ما نعبدهم إلا لیقرّبونا إي اللّه زلفی، أو هؤلاء شفعاؤنا
بما یقوم به المسیحیون والوثنیون، والخلط بینهما ابتعاد عن الموضوعیۀ، لأنّ المسیحیین یعتقدون بألوهیۀ المسیح، والوثنیین یعتقدون
بتملّک الأوثان مقام الشفاعۀ والمغفرة، بل مقام التصرف فی الکون کإرسال الأمطار علی ما نقله ابن هشام( 3) ولأجل هذا الاعتقاد
کان طلبهم واستغاثتهم بالمسیح والأوثان عبادة لها .
. 1 . فتح المجید ص 167
2 . نفس المصدر .
( 82 ) . 3 . السیرة النبویۀ ج 1 ص 79
وأمّا استغاثۀ المسلمین بالأرواح المقدّسۀ فخالیۀ من هذه الشوائب فعندئذ، لا یکون شرکاً ولا عبادة، بل استغاثۀ بعبد لا یقوم بشیء إلاّ
بإذنه سبحانه، فإن أذن أجاب، وإن لم یأذن سکت، فما معنی توصیف هذا بالشرك ؟ 4- هل القدرة والعجز حدان للتوحید والشرك
صفحۀ 39 من 174
؟
وهناك معیار مزعوم آخر یظهر من کلمات ابن تیمیۀ، وهو أنّ قدرة المستغاث علی تحقیق الحاجۀ یوجب أن لا یکون الطلب شرکاً
مَنْ یأتی إلی قبر نبیی أو صالح ویسأل حاجته » : ولکن عجزه عن قضاء الحاجۀ یضفی علی الطلب لون الشرك، یقول ابن تیمیۀ
ویستنجد به، مثل أن یسأله أن یزیل مرضه ویقضی دینه، ونحو ذلک مما لا یقدر علیه إلاّ اللّه عزّوجلّ. فهذا شرك صریح یجب أن
1) . ولیس هذا ملاکاً جدیداً بل هو وجه آخر للملاك السابق، غیر أنّه عبّر فی السابق بموت )« یستتاب صاحبه، فإن تاب وإلاّ قتل
الاستغاثۀ بالمخلوقین فی ما یقدرون علیه مما لا ینکرها أحد، وإنّما الکلام » : المستغاث وحیاته، وهنا بالعجز والقدرة، یقول الصنعانی
فی استغاثۀ القبوریین وغیرهم بأولیائهم، وطلبهم منهم أُموراً لا یقدر علیها إلاّ اللّه تعالی، من عافیۀ المرض وغیرها، وقد قالت أُم سلیم:
یا رسول اللّه. خادمک أنس، ادع اللّه له، وقد کان الصحابۀ یطلبون الدعاء منه وهو حی، وهذا أمبر متفق علی جوازه، والکلام فی
. (2)« طلب القبوریین من الأموات أو من الأحیاء أن یشفوا مرضاهم ویردوا غائبهم، ونحو ذلک من المطالب الّتی لا یقدر علیها إلاّ اللّه
وعلی أيّ تقدیر، فسواء أکان هذا وجهاً آخر للملاك السابق أم ملاکاً آخر بقرینۀ عطف الأحیاء علی الأموات فی هذا الکلام، فلیست
القدرة والعجز ملاکین للتوحید والشرك، وإنّما هما ملاك الجدوائیۀ وعدمها.
. 1 . زیارة القبور والاستنجاد بالمقبور، ص 156 والهدایۀ السنیۀ، ص 40
5- طلب فعل اللّه من غیره ( 2 . کشف الإرتیاب ص 272 نقلا عن الصنعانی . ( 83
مَن یأتی إلی قبر نبی أو صالح » : هذا هو الملاك الحقیقی الّذي أو عز إلیه الصنعانی، ویوجد فی کلمات ابن تیمیۀ وقد عرفت قوله
وهذا مما لا إشکال فیه، غیر أنّ الکلام فی تمییز فعل « ویسأله أن یزیل مرضه ویقضی دینه أو نحو ذلک مما لا یقدر علیه إلاّ اللّه تعالی
اللّه عن فعل غیره، أمّا الکبري فمسلمۀ عند الکل، فقد اتفق الموحدون علی أنّ طلب فعله سبحانه من غیره، ملازم للاعتقاد بألوهیۀ
المسؤول وربوبیته، فاللازم دراسۀ الصغري، وأنّ فعل اللّه ما هو؟ والترکیز علیه . تري أنّ ابن تیمیۀ قد سلم أنّ شفاء المریض وقضاء
الدین علی وجه الإطلاق من أفعاله سبحانه، مع أنّ الحق أن قسماً منهما یعدّ فعلا للّه سبحانه دون قسم آخر . إنّ إبراء المریض وقضاء
الدین ورد الضالۀ وغیرها بالسنن الطبیعیۀ أو غیرها علی وجه الاستقلال ومن دون استعانۀ بأحد هو فعل اللّه سبحانه، فلو طلب نفس
ذلک من غیره لا ینفک عن الاعتقاد بالألوهیۀ والربوبیۀ . وأمّا لو طلب منه مع الاعتقاد بأنّه مستغاث یقوم بهذه الأُمور عن طریق العلل
الطبیعیۀ أو غیرها، مستمداً من قدرة اللّه وقائماً بإذنه ومشیئته، فلیس هذا فعل اللّه حتّی یکون طلبه من غیره شرکاً. لأنّه سبحانه یقوم
مع أنّ ابن تیمیۀ وأتباعه زعموا أنها « یبريء الأکمه والأبرص بإذنه » بالفعل مستقلا وبلا استمداد. کیف وقد صرح القرآن بأنّ المسیح
من أفعاله سبحانه، قال سبحانه: (وَ تُبْرِيءُ الأکْمَهَ والأبْرَص بِإذنی وَ إذْ تُخْرِجُ المَوْتی بِإذْنِی)( 1) وقد نسب الذکر الحکیم

( 84 ) . 1 . سورة المائدة: الآیۀ 110
کثیراً من الأمور الخارقۀ للعادة إلی أنبیائه، فلم تکن هذه النسبۀ إلاّ لأجل أنّهم یقومون بما یقومون، بإذنه سبحانه . وحصیلۀ الکلام:
التوسّل بالأسباب بقید أنّها أسباب سواء أکانت طبیعیۀ أم غیر طبیعیۀ لا یلازم الشرك، نعم، السبب ربما یکون سبباً واقعیاً، وأُخري
سبباً کاذباً وخاطئاً، والاشتباه فی سببیۀ السبب لا یستلزم الاعتقاد بألوهیۀ السبب أو ربوبیته، أو کون الطلب منه طلب فعل اللّه من غیره .
ونعید الکلام حتّی یتّضح الحق بأجلی مظاهره فنقول: إنّ التعلّق بالشیء والطلب منه مع الاعتقاد بالسببیۀ، وأنّ اللّه سبحانه أعطاه
المقدرة علی إنجاز المأمول یمتنع أن یتصف بالشرك، لأنّ المفروض أنّ المتوسل إنّما تعلّق به بقید کونه رابطاً وسبباً. نعم یمکن أن
یکون المتوسل صائباً فی الاعتقاد بالسببیۀ أو خاطئاً، ولکن الاشتباه فی الموضوع لایکون دلیلا علی الاعتقاد . وأمّا إذا کان التعلق
بالشیء لا بوصف السببیۀ والرابطیۀ، بل بما أنّ المطلوب منه، موجود مستقل فی فعله وإیجاده، یقوم بالفعل بنفسه، ویقوم بحاجۀ
المستنجد من صمیم ذاته من دون أن یکون سبباً ورابطاً بین الإنسان وربّه، فهذا یکون ملازماً للإعتقاد بالألوهیۀ من دون نقاش . کان
صفحۀ 40 من 174
اللائق بابن تیمیۀ ونظرائه دراسۀ فعل اللّه سبحانه وتمییزه عن غیره، حتّی لا یحکموا بضرس قاطع بأنّ الإعانۀ والإماتۀ والشفاعۀ وغیرها
علی الإطلاق من أفعال اللّه سبحانه، بل الحق أنّ کلّا من هذه الأفعال یقع علی وجهین، فهو علی وجه فعله سبحانه، وعلی وجه آخر
یصحّ أن یعدّ فعلا للسبب، ولأجل ذلک نري أنه سبحانه ینسب فعلا واحداً لذاته، وفی الوقت نفسه ینسبه لمخلوق من مخلوقاته،
وإلیک نماذج من ذلک: 1- یعدّ القرآن فی بعض آیاته قبض الأرواح فعلا للّه تعالی، ویصرح بأنّ اللّه هو الّذي یتوفّی الأنفس حین
. ( موتها إذ یقول مثلا: ( 85 ) (اللّهُ یَتَوَفّی الأنْفُسَ حِینَ مَوْتِهَا)( 1
2- یأمر القرآن فی سورة . ( بینما تجده ینسب التوفّی فی موضع آخر، إلی غیره، قال: (حَتّی إذا جاءَ أحَ دَکُمُ المَوْتُ تَوَفَّتهُ رُسُلُنا)( 2
الحمد بالاستعانۀ باللّه وحده إذ یقول: (وَإیّاكَ نَسْتَعِینُ)( 3)، فی حین نجده فی آیۀ أُخري یامر بالاستعانۀ بالصبر والصلاة إذ یقول:
3- یعتبر القرآن الکریم الشفاعۀ حقاً مختصاً باللّه وحده، إذ یقول: (قُلْ للّهِ الشّفَاعَۀُ جَمیعاً)( 5) . بینما . ( (وَاسْتَعِینُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ)( 4
یخبرنا فی آیۀ أُخري عن وجود شفعاء غیر اللّه کالملائکۀ ویقول: (وَکَم مِنْ مَلَک فی السّمواتِ لَا تُغْنی شَ فَاعَتُهُم شَیئاً إلاّ مَنْ بَعْدِ
4- إنّ اللّه هو الکاتب لأعمال عباده إذ یقول: (وَاللّهُ یَکْتُبُ مَا یُبَیّتُون)( 7) فی حین أنّ القرآن یعتبر الملائکۀ کتبۀ . ( أنْ یأذَنَ اللّه)( 6
5- قد تضافرت الآیات علی أنّه سبحانه هو المدبّر، یقول: (وَمَن یُدَبّرُ الأمرَ . ( أعمال العباد إذ یقول: (بَلَی وَرُسُلُنا لَدَیْهم یَکْتُبُونَ)( 8
فَسَیَقُولُونَ اللّه)( 9) بینما یصرّح القرآن بمدبریۀ غیره ویقول:
. 1 . سورة الزمر: الآیۀ 42
. 2 . سورة الأنعام: الآیۀ 61
. 3 . سورة الفاتحۀ: الآیۀ 5
. 4 . سورة البقرة: الآیۀ 45
. 5 . سورة الزمر: الآیۀ 44
. 6 . سورة النجم: الآیۀ 26
. 7 . سورة النساء: الآیۀ 81
. 8 . سورة الزخرف: الآیۀ 80
. ( 86 ) (فَالمُدبّراتِ أمراً)( 1 ) . 9 . سورة یونس: الآیۀ 31
وهذه نماذج من الآیات مما نسب الفعل إلی اللّه سبحانه، وفی الوقت نفسه نسب إلی عباده، وما المصحح إلاّ ما ذکرنا، وهو أنّ
المنسب إلیه سبحانه غیر المنسوب إلی العباد، وأنّ قیامه سبحانه بالأفعال علی وجه الاستقلال من دون أن یعتمد علی سبب عال أو قوة
علیا، وأمّا قیام غیره فإنما هو بالسببیۀ والرابطیۀ والمأموریۀ. وفی ضوء هذا تقدر علی تمییز فعله سبحانه عن فعل غیره، فلیس شفاء
المریض وقضاء الدین وردّ الضالۀ علی وجه الإطلاق، من فعله سبحانه، ولا من فعل عباده، بل لکلّ سمۀ وعلامۀ، بها یتمیز عن غیره.
والحد الفاصل بین فعله سبحانه وفعل غیره هو کون الفاعل مستقلا فی الایجاد، ومالکاً لفعله، وکونه غیر مستقل فی الفعل وغیر مالک
له، والأول (أي الّذي یصدر عن الفاعل علی وجه الاستقلال) لا یطلب إلاّ منه، والثانی یطلب من غیره. فتلخّص من هذا البحث الضافی
أنّ کل خضوع قلبی أو لسانی أو خشوع فعلی لا یتصف بالعبادة إلاّ إذا اعتقد الخاضع بأنّ فی المخضوع له، عنصر الألوهیۀ والربوبیۀ،
وأنّه مستقل فی الذات والفعل، أو فی الفعل فقط، وأمّا إذا کان قلب الخاضع خالیاً عن الاعتقاد بهذا العنصر، بل کان معتقداً بعبودیته
وعدم مالکیته شیئاً، وعدم قیامه بأمر إلاّ بإذنه، وأنّه لیس له دور سوي دور السببیۀ، فطلب أيّ شیء منه لا یتّسم بالعبادة، سواء أطلب
منه القیام عن طریق أسباب طبیعیۀ، أم القیام به عن طریق أسباب خارقۀ للعادة . وسواء اعتقد أنّ فیه سلطۀ غیبیۀ یقوم بأعمال خارقۀ
للعادة فی ظلها أو لا وسواء أکان المطلوب منه عاجزاً أم قادراً. وسواء أطلب أُموراً عادیۀ کالسقی، أم أُموراً غیر عادیۀ کبرء الأکمۀ
والأبرص وإحیاء الموتی .
صفحۀ 41 من 174
( 87 ) . 1 . سورة النازعات: الآیۀ 5
إذ لیس شیء منها هو العامل المؤثر لإضفاء العبادة علی الطلب، وإنّما الموثر هو ما ذکرناه، وبذلک نقدر علی القضاء فی الموضوعات
التالیۀ الّتی وصفتها الوهابیۀ بأنّهاشرك محرّم وهی: 1- طلب الشفاعۀ من الأنبیاء والصالحین . 2- الاستعانۀ بأولیاء اللّه . 3- طلب شفاء
المریض من غیر اللّه . 4- دعوة الصالحین، مثل: یا محمد أغثنی . فإنّ الوهابیین تبعاً لشیخهم فی المنهج یصورون جمیع هذه الدعوات
دعوات شرکیۀ أشبه بدعاء عبدة الأصنام . ولکنّک بعدما أحطت خبراً بما ذکرنا سرعان ما ترجع وتقضی بحکمین مختلفین ینشآن من
اختلاف عقیدة الداعی وتقول: إنّ کل واحد من هذه الاُمور علی وجه، شرك، وعلی وجه آخر لیس بشرك، ولا یعلم أيّ واحد
منهما إلاّ أن نقف علی عقیدة السائل . فلو کان المدعو فی اعتقاد الداعی هو اللّه العالم أو غیره، لکن باعتقاد أن له سهماً من الألوهیۀ
أو الربوبیۀ، فهو عبادة بلا شک، حتّی لو سئل منه السقی بالماء وإیصاد الباب، وما شابههما من الأُمور العادیۀ البسیطۀ والمتعارفۀ. وأمّا
إذا کان المدعو حسب اعتقاد الداعی عبداً مرزوقاً ومربوباً محتاجاً، قائماً فی ذاته باللّه سبحانه، مستمداً فی فعله منه، ولا یقوم بفعل إلاّ
بإقداره واذنه، فلا یکون الطلب منه ولا دعاؤه متسماً بوصف العبادة، بل أقصی ما یمکن أن یقال هو أنّه إذا کان المسؤول والمدعو
قادراً علی العمل، یکون الطلب مفیداً، وإلاّ یکون لغواً . وبذلک یظهر أنّ المیزان فی توصیف العمل بالشرك والانحراف عن خط
( التوحید لیس هو صور الأعمال وظواهرها، بل المراد حقائقها وبواطنها. فما ورد ( 88
فی کلمات القوم من تشبیه عمل المسلمین بعمل عبدة الأصنام تشبیه باطل لا یعوّل علیه. بقیت هنا کلمۀ وهی : ما هو المراد من النهی
عن دعوة غیر اللّه ؟
إنّ الآفۀ کل الآفۀ هی أن الوهابیین کشیخهم ابن تیمیۀ یسردون الآیات والروایات من دون أن یتفکروا فی مفادهما ومواردهما،
ولکنهم یأخذون بالظواهر الابتدائیۀ مع تناسی ما حول الآیات من القرائن، فتراهم یعدون دعاء الصالحین والاستغاثۀ بهم والطلب منهم
شرکاً، بحجّۀ أنّه سبحانه عد دعاء المشرکین للأصنام والأوثان شرکاً وقال: (وَ أنّ المَساجِدَ للّه فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللّه أحَداً)( 1) . (لَهُ دَعوَةُ
الحَقّ والّذینَ یَدْعُونَ مِنْ دُونِه لا یَسْتَجیبونَ لَهُم بِشَ یء)( 2) . (إنّ الّذینَ تَدْعونَ مِنْ دُونِ اللّهِ عَبادٌ أمْثَالَکُمُ)( 3) . (وَالّذینَ تَدعُونَ مِنْ
دُونِهَ مَا یَملِکُونَ مِن قِمطیر)( 4) . (قُلِ ادْعُوا الّذینَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا یَمْلِکُونَ کَشْفَ الضُّرّ عَنْکُم وَلا تَحویلا)( 5) . (أُولئِکَ الّذینَ
یَدْعُونَ یَبْتَغُونَ إلی رَبّهم الوَسیلَۀ...)( 6) .
. 1 . سورة الجن: الآیۀ 18
. 2 . سورة الرعد: الآیۀ 14
. 3 . سورة الأعراف: الآیۀ 194
. 4 . سورة فاطر: الآیۀ 13
. 5 . سورة الإسراء: الآیۀ 56
89 ) (وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللّه مَا لا یَنْفَعُکَ وَ لا یَضُرُّكَ...)( 1) . (وَ مَنْ أضَلّ مَمَّن یَدْعُو مَنْ دُونِ اللّه مَنْ ) . 6 . سورة الإسراء: الآیۀ 57
. ( لا یَسْتَجیبُ لَهُ إلی یَومِ القیامَۀِ)( 2
تري أنهم یسردون هذه الآیات الواردة فی حقّ المشرکین المعتقدین بالوهیۀ الأصنام وربوبیتهم، وکونهم مفوّضاً إلیهم القیام بالأفعال
والأعمال، من الشفاعۀ والمغفرة، والشفاء وغیرها. یسردون هذه الآیات بصلافۀ وقحۀ فی حق المسلمین الإلهیین الذین لا یعتقدون فی
حق الأنبیاء والصالحین سوي کونهم عباداً مقربین، تستجاب دعوتهم إذا دعوا، ویقومون بحاجۀ المستنجد بإذنه سبحانه وقدرته،
وإلیک محصّلها: 1- إنّ هذه الآیات وما ضاهاها تختص بالمشرکین الذین کانوا یصورون أوثانهم وأصانهم آلهۀ یملکون کشف الضر
والتحویل، وینصرون بلا استئذان منه سبحانه، لأنّهم یملکون هذا الجانب من الأفعال الإلهیۀ، وأین هو من عقیدة المسلم الموحد فی
حقّ الأنبیاء والصالحین من أنهم عباد مکرمون، لا یعصون اللّه ما أمرهم، وهم بأمره یعملون، وبإذنه یشفعون و...؟ 2- إنّ المراد من
صفحۀ 42 من 174
الدعاء فی هذه الآیات، لیس الدعوة المجردة بمعنی النداء بل المراد هو الدعاء الخاص المرادف للعبادة، ولیس ذلک بغریب، فقد
جمع سبحانه فی آیۀ واحدة، بین الدعوة والعبادة، وفسّر الأُولی بالثانیۀ نحو قوله: (وَقالَ رَبُّکُم ادْعُونی أستَجِب لَکُم إنَّ الّذینَ
وسمیت دعاءك عبادة، وترکه » : یَسْتَکْبِرُونَ عَنْ عِبَادتی سَیَدْخُلُونَ جَهَنم دَاخرینَ)( 3) . یقول الإمام زین العابدین علیه السَّلام
4) . )« استکباراً وتوعدت علی ترکه دخول جهنم داخرین
. 1 . سورة یونس: الآیۀ 106
. 2 . سورة الاحقاف: الآیۀ 5
. 3 . سورة غافر: الآیۀ 60
( 90 ) . 4 . الصحیفۀ السجادیۀ، الدعاء 49
- فالمراد هو هذا القسم من الدعاء، أي الدعاء المقرون بالوهیۀ المدعو بنحو من الأنحاء . 3 « الدعاء مخّ العبادة » : وما ورد فی الحدیث
إنّ المنهی عنه هو جعل المدعو فی مرتبۀ اللّه الخالق، کما یعرب عنه قوله: (وَ أنَّ المَسَاجِ دَ للّه فَلا تَدْعُوا مَعَ اللّه أحَداً)( 1) وکان هو
أساس عبادة المشرکین، قال سبحانه: (و جَعلوا للّهِ أنداداً لِیُضلُّوا عَنْ سبیله)( 2) وقال: (إذْ نُسَوِّیکُم بِرَبّ العَالمین)( 3) وأین هذه الآیات
من الموحدین الذین لا یرون مع اللّه شیئاً، بل یرون الکل دونه لکونهم مربوبین؟.
. 1 . سورة الجن: الآیۀ 18
. 2 . سورة إبراهیم: الآیۀ 30
. 3 . سورة الشعراء: الآیۀ 98
البدعۀ