گروه نرم افزاری آسمان

صفحه اصلی
کتابخانه
جلد پنجم
مباحث الظّن … ص: 261







اشارة
ص: 263
مقدّمات … ص: 261
بعد الفراغ من مباحث القطع…
تصل النوبۀ إلی مباحث الظّن، وعمدتها (الأمارات).
وقد ذکروا قبل الورود فی تلک المباحث اموراً:
الأمر الأوّلانّ الأمارة لا تقتضی الحجیّۀ ذاتا … ص: 263
اشارة
إنّ الأمارة علی قسمین، منها: علمیّۀ، ومنها: غیر علمیّۀ.
والقسم الثانی لیس بحجّۀ ذاتاً، لکنْ یمکن ثبوت الحجیّۀ لها…
کلام المحقّق الخراسانی … ص: 263
قال فی الکفایۀ:
إنه لا ریب فی أنّ الامارة غیر العلمیۀ لیس کالقطع فی کون الحجیّۀ من لوازمها ومقتضیاتها بنحو العلیّۀ بل مطلقاً، وأن ثبوتها لها
محتاج إلی جعلٍ أو ثبوت
ص: 264
مقدمات وطروّ حالات موجبۀ لاقتضائها الحجیۀ عقلًا، بناءً علی تقریر مقدّمات الإنسداد بنحو الحکومۀ. وذلک: لوضوح عدم اقتضاء
غیر القطع للحجیّۀ بدون ذلک ثبوتاً بلا خلاف، ولا سقوطاً، وإنْ کان ربما یظهر فیه من بعض المحققین الخلاف والاکتفاء بالظن
بالفراغ، ولعلّه لأجل عدم لزوم دفع الضرر المحتمل.
.«1» فتأمل
توضیحه:
لقد کان القطع علّۀً تامّۀً للحجیّۀ، فکانت الحجیّۀ من لوازم القطع، ولیس الظن کذلک، بل لا اقتضاء له بالنسبۀ إلیها … وإنما یکون
الظن حجۀً إمّا بجعلٍ من الشارع، وذلک کما فی الظنون الخاصّ ۀ، أو بناءً علی الکشف فی قانون الإنسداد، وإمّا بحکمٍ من العقل،
وبقانون الانسداد بناءً علی الحکومۀ.
وقد جَعَل هذا المطلب مما لا ریب فیه لوضوحه.
ثم أشار فی آخر کلامه إلی أنّ حجیّۀ الظن فی مقام ثبوت الحکم الشرعی محتاج إلی جعلٍ من الشارع أو حکمٍ من العقل کما تقدم.
قال: وهذا لا خلاف فیه.
إشکال السید الخوئی علی الکفایۀ … ص: 264
صفحۀ 142 من 204
إنّ ثبوتها لها محتاج إلی جعلٍ » : ولا یخفی أنّ المراد من حکم العقل هو إدراکه، لکنّ السیّد الخوئی أشکل علی ظاهر عبارة الکفایۀ
.« أو ثبوت مقدّمات وطروّ حالاتٍ موجبۀ لاقتضائها الحجیّۀ عقلًا
__________________________________________________
. 1) کفایۀ الاصول: 275 )
ص: 265
بأنّ حکم العقل عبارة عن إدراکه ولیس له حکم سوي الإدراك، لعدم کونه مشرّعاً لیحکم بشیء، إذ علی تقدیر الکشف کان العقل
کاشفاً عن حجیّته الشرعیّۀ لا حاکماً. بحجیّته، وأمّا علی تقدیر الحکومۀ، فلا یحکم العقل بحجیّۀ الظنّ أصلًا، وإنما یحکم بتضییق دائرة
.«1» الاحتیاط فی مقام الامتثال فی المظنونات ورفع الید عنه فی المشکوکات والموهومات
….« لاقتضائها الحجیّۀ بنحو الحکومۀ، وذلک لوضوح » : وقد یشهد بما ذکرنا أن الجملۀ فی بعض نسخ الکفایۀ
وأمّا فی مقام سقوط التکلیف، فکذلک، إلّاما یظهر من المحقق الخونساري فی مباحث الاستصحاب حیث ذکر: أنه لو جاء أمر أو نهی
.«2» معلّق علی غایۀٍ ثم شک فی تحقق الغایۀ، وجب الإتیان بالمأمور به وترك المنهیّ عنه، للظن بالضرر، فیلزم تحصیل المظنّۀ بعدمه
فاستظهر صاحب الکفایۀ من کلام هذا المحقق القول بأنّ للظن فی مقام سقوط التّکلیف اقتضاء للحجیّۀ، وإلّا لقال بوجوب امتثال الأمر
أو النهی حتی یحصل القطع بسقوط التکلیف.
قال: ولعلّه لأجل عدم لزوم دفع الضرر المحتمل. فتأمل.
أقول:
ولعلّ الأمر بالتأمّل، للإشارة إلی بطلان المبنی، فإن دفع الضرر المحتمل لازم.
__________________________________________________
.88 / 1) مصباح الاصول 2 )
. 2) مشارق الشموس فی شرح الدروس: 147 )
ص: 266
وحاصل الکلام: إنّ الظنّ له کاشفیّۀ ناقصۀ عن الواقع، ولیس کالشک حیث لا کاشفیّۀ له أصلًا وله قابلیّۀ لأنْ تجعل له الکاشفیّۀ التامّۀ
بإلغاء احتمال الخلاف تعبّداً … وعلیه، فإنّ الظنّ لا اقتضاء له للحجیّۀ ذاتاً، ولکنْ فیه اقتضاء جعل الحجیّۀ له.
أمّا جعلها فقد ذکرناه.
وأمّا عدم الإقتضاء الذاتی فیه لها، فلأنّ الحجیّۀ إن کانت بمعنی الطریقیّۀ، فإن الظنّ ملازم لاحتمال الخلاف، فلا یصلح للطریقیّۀ. وإنْ
کانت بمعنی المنجزیّۀ والمعذریّۀ، فإنّ التنجیز والإعذار من الأحکام العقلیّۀ، ومع عدم کاشفیۀ الظن عن الواقع کیف یتمّ به ذلک؟
إشکال الإیروانی فی قابلیّۀ الظنّ للحجیّۀ الشرعیّۀ … ص: 266
وللمحقق الإیروانی شبهۀٌ فی أصل قابلیّۀ الظنّ للحجیّۀ الشرعیّۀ، قال:
لا تثبت الحجّیّۀ بالجعل کی یکون غیر الحجّ ۀ حجّ ۀ بإنشاء حجّیّته، بل ما هو حجّۀ حجّۀ بحکم العقل؛ إمّا مطلقاً أو فی حال الانسداد،
وما لیس بحجّ ۀ لا یکون حجّ ۀ أبداً، لا لأنّ الحجّیّۀ غیر قابلۀ للجعل، وإن کان الأمر کذلک، بل لأنّ الحجّیّۀ إن کانت بالجعل لزم
التسلسل إلی حجّۀ أخري مثبتۀ للحجّۀ الأولی، وهی إن کانت عقلیّۀ کانت الحجّۀ فی الحقیقۀ هی تلک الحجّۀ العقلیّۀ لا هذه الشرعیّۀ،
وإن کانت حجّۀ جعلیّۀ شرعیّۀ عادة ذکرناه أوّلًا، وهکذا.
وبالجملۀ: لابدّ أن تکون الحجّیّۀ صادرة من باب العقل، ولا محیص عن أن یکون مناخ رحال التکلیف ببابه، فصحّ أن یقال: لیست
صفحۀ 143 من 204
الحجّۀ إلا القطع، أو الظنّ
ص: 267
«1» . علی الحکومۀ
أقول:
حاصله: إنه إن أنشأ الشارع الحجیّۀ للظنّ وقع السؤال عن الملاك لها، فلو استدلّ علیها بالجعل، سئل عن الملاك لذاك الجعل،
وهکذا یتسلسل.
وإذا تمت هذه الشبهۀ، کانت الحجیّۀ منحصرةً بالقطع وبالظنّ الإنسدادي بناءً علی الحکومۀ، ولا تبقی حجیّۀ شرعیّۀ للأمارات.
لکنّ الشبهۀ تندفع:
أمّا نقضاً، فبأنّ الحجیّۀ مجعولۀ من قبل الشارع فی موارد، کما فی الروایات والأدعیۀ والزیارات، یقول صاحب الزمان علیه السلام فی
التوقیع المرويّ عنه:
إذ مدلول الروایۀ جعل الحجیّۀ، کما أنه «2» « وأمّا الحوادث الواقعۀ، فارجعوا فیها إلی رواة حدیثنا، فإنهم حجتی علیکم وأنا حجۀ اللَّه »
قد جعل الحکومۀ. «3» « فإنی قد جعلته علیکم حاکماً » : فی المقبولۀ، إذ قال علیه السلام
وأمّا حلّاً، فقد تقرّر أن کلّ ما بالعرض لابدّ وأنْ ینتهی إلی ما بالذات، وهذا القانون ملاکه بطلان التسلسل، فلولا انتهاء ما بالعرض إلی
ما بالذات للزم التسلسل … وعلیه، فالحجیّۀ العرضیّۀ لابدّ وأنْ تنتهی إلی الحجّ ۀ بالذات، ومنه یظهر أنّه الحجّ ۀ علی قسمین، ذاتیّۀ
وعرضیّۀ، والعرضیۀ هی الجعلیّۀ. فالانحصار الذي ادّعاه المحقق المذکور باطل، وأن الظن یصلح لتعلّق الحجیّۀ به.
__________________________________________________
.478 / 1) حاشیۀ الکفایۀ 2 )
. 140 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضی، رقم: 9 / 2) وسائل الشیعۀ 27 )
. 137 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضی، رقم: 1 / 3) وسائل الشیعۀ 27 )
ص: 268
وحینئذٍ، لا فرق بین ثبوت التکلیف وسقوطه بالظن، والترجیح بلا مرجح باطل، وما احتمله صاحب الکفایۀ فی کلام الخونساري لا
یناسب شأنه، لأن الضّرر المحتمل الذي لا یلزم دفعه- علی القول به- غیر الضرر الاخروي.
ولذا جاء فی مصباح الاصول أنّ ما ذکره فی الکفایۀ أجنبی عن المقام، إذ الخلاف فی لزوم دفع الضرر المحتمل وعدمه إنما هو فی
.«1 …» الضرر الدنیوي لا فی الضرر الاخروي، فإنه لم یخالف أحد فی لزوم دفع الضرر المحتمل الاخروي مع تنجّز التکلیف
وعلی الجملۀ: إنه مع تنجّز التکلیف یکون قاعدة لزوم دفع ال ّ ض رر المحتمل محکّماً، وإلّا جرت قاعدة قبح العقاب بلا بیانٍ، لتقدّمها
علی تلک القاعدة.
أمّا بناءً علی القول بحکم العقل بحقّ الطّاعۀ للمولی فی موارد الشک فی ثبوت التکلیف، وتقدّم ذلک علی قاعدة قبح العقاب بلا
بیان، فإنّه یحکم به فی موارد الشک فی السقوط مع العلم بأصل الثبوت…
لکنّ قاعدة قبح العقاب بلا بیان متقدّمۀ علی قانون حقّ الطاعۀ وقانون لزوم دفع ال ّ ض رر المحتمل، کما سیأتی بالتفصیل فی محلّه إن
فی هذا المقام. «2» شاء اللَّه، فلا مجال لما ذکره السیّد الصّدر
__________________________________________________
.89 / 1) مصباح الاصول 2 )
.188 -187 / 2) بحوث فی علم الاصول 4 )
صفحۀ 144 من 204
ص: 269
الأمر الثانیفی إمکان التعبّد بالظن … ص: 269
اشارة
ذهب المشهور إلی إمکان التعبّد بالظن، وخالف ابن قبۀ لشبهۀٍ له، سیأتی الکلام علیها.
دلیل المشهور کما ذکر الشیخ … ص: 269
وذکر الشیخ قدّس سرّه دلیل المشهور: بأنا نقطع بأنّه لا یلزم من التعبّد به محال.
قال:
وفی هذا التقریر نظر، إذ القطع بعدم لزوم المحال فی الواقع، موقوف علی إحاطۀ العقل بجمیع الجهات المحسّنۀ والمقبّحۀ وعلمه
بانتفائها، وهو غیر حاصل فیما نحن فیه.
ثم قال:
.«1» فالأولی: أن یقرّر هکذا، إنّا لا نجد فی عقولنا بعد التأمّل ما یوجب الإستحالۀ، وهذا طریق یسلکه العقلاء فی الحکم بالإمکان
وقال المحقق الخراسانی:
فی بیان إمکان التعبّد بالأمارة غیر العلمیّۀ شرعاً وعدم لزوم محال منه عقلًا،
__________________________________________________
.106 / 1) فرائد الاصول 1 )
ص: 270
.«1» فی قبال دعوي استحالته للزومه
ثم تعرّض لمعنی الإمکان، وأشکل علی کلام الشّیخ، وقال بأنّ الدلیل علی إمکان التعبّد بالظن هو وقوعه. وسیأتی توضیح ما ذهب
إلیه فی المقام.
المراد من الإمکان … ص: 270
وقبل الورود فی المطلب نقول:
قد وقع الکلام بین الأعلام فی المراد من الإمکان فی هذا المقام، لأن الإمکان تارةً: هو الاحتمال، وهذا مراد الشیخ الرئیس من کلمته
المشهورة.
واخري: هو الإمکان الذاتی، بأن تلحظ الماهیۀ إلی الوجود والعدم، فلا تکون آبیۀً عنهما، وثالثۀً: هو الإمکان الوقوعی، أي: عدم ترتب
المحال من وقوع الشیء.
ورابعۀً: هو الإمکان الاستعدادي، وهو یکون فی المواد. وخامسۀً: هو الإمکان بالقیاس.
الأکثر علی أنه الإمکان الوقوعی … ص: 270
والإمکان فیما نحن فیه، إمّا الذاتی وإمّا الوقوعی.
صفحۀ 145 من 204
فقال الأکثر: أن مورد البحث هو الإمکان الوقوعی، إذ لا شک فی عدم إباء التعبّد بالظنّ من الوجود والعدم، فالمبحوث عنه هو
الإمکان الوقوعی، فیبحث عن أنه یستلزم التعبّد بذلک محالًا من المحالات کتفویت المصلحۀ أو الإلقاء فی المفسدة أو اجتماع
الضدین أو النقیضین … أوْلا.
وذکر السیّد الاستاذ رحمه اللَّه ما نصّه:
ویقصد من الإمکان المبحوث عنه هو الإمکان الوقوعی الذي یرجع إلی
__________________________________________________
. 1) کفایۀ الاصول: 275 )
ص: 271
نفی استلزام التعبّد بالظن المحال، فی قبال دعوي الإمتناع الرّاجعۀ إلی دعوي استلزامه المحال کما ستعرف.
لا الإمکان الذاتی، وهو کون الشیء بحسب ذاته ممکن الوقوع، فی قبال الامتناع الذاتی، وهو کون الشیء بحسب ذاته ممتنع الوقوع
.«1» کاجتماع النقیضین، إذ لا إشکال فی عدم کون التعبّد بالظن ممتنع التحقّق ذاتاً وبالنظر إلی نفسه بلا لحاظ مستلزماته
رأي المحقق الإصفهانی … ص: 271
ولکنّ المحقق الإصفهانی قال:
إعلم أنّ المعروف أن الإمکان المتنازع فیه هنا هو الإمکان الوقوعی، نظراً إلی أنه لا یتوهّم أحد من العقلاء أن التعبّد بالظن بذاته یأبی
عن الوجود کاجتماع النقیضین.
إلّا أنه لیس بذلک الوضوح، فإن التعبّد بالظنّ إذا کان معناه جعل الحکم المماثل، فجعل المثل فی مورد وجود المثل أو الضدّ
واقعاض عین الجمع بین المثلین أو الضدّین فی موضوع واحد، لا أنه یلزم من إیجاد المثل فی مورد الابتلاء بالمثل جمع بین المثلین
غیر إیجاد المثل فی موضوع مبتلی بمثله.
نعم، إن کان التعبّد بالظن معنیً لازمه جعل حکم مماثل لا عینه، فحینئذٍ لازمه الجمع بین المثلین، کما سیجئ فی تحقیق حقیقۀ دلیل
.«2» التعبّد
وحاصله:
__________________________________________________
.140 / 1) منتقی الاصول 4 )
.120 -119 / 2) نهایۀ الدرایۀ 3 )
ص: 272
إن القول بأنّ المراد هو الإمکان الوقوعی، إنما یتمّ بناءً علی أنّ حقیقۀ التعبّد بالأمارة هو جعل الطریقیّۀ لها، وکذا علی القول بأنها جعل
الحجیّۀ لها. أمّا علی القول بأنّ حقیقۀ التعبّد بالأمارة هی: جعل الحکم المماثل، فإنه یستلزم المحال الذاتی، لأن جعل الحکم المماثل
اجتماع المثلین، واجتماع المثلین لیس من المحالات الوقوعیۀ بل هو من المحالات الذاتیّۀ، ولو جعل الحکم المضاد لزم اجتماع
الضدّین، وهو من المحالات الذاتیّۀ.
فعلی هذا المبنی فی حقیقۀ التعبّد بالأمارة، یکون موضوع البحث هو الإمکان الذاتی.
مناقشۀ المحقق العراقی … ص: 272
صفحۀ 146 من 204
:«1» فأشکل المحقق العراقی
بأنّ لازم جعل الحکم المماثل أو المضاد اجتماع المثلین أو الضدّین، فالمحذور لازم الجعل ولیس هو الجعل، وإذا کان لازماً له، کان
البحث عن الإمکان الوقوعی لا الذاتی.
أقول:
ولکنّ الحق مع الإصفهانی، لأن عنوان اجتماع المثلین أو الضدّین، من العناوین الانتزاعیۀ، والعنوان الانتزاعی قائم بمنشأ انتزاعه، ونفس
وجود المثل مع حفظ وجود مماثله اجتماع للمثلین، کما أن نفس وجود الشیء مع حفظ وجود ضدّه اجتماع للضدّین، وکلٌّ منهما
مستحیل ذاتاً.
__________________________________________________
. 1) نهایۀ الأفکار، ق 1 ج 3 ص 56 )
ص: 273
رأي المحقق النائینی … ص: 273
إلی أن الإمکان المبحوث عنه هنا هو الإمکان التشریعی وأنّ البحث هو: هل یلزم من التعبّد بالظن محذور :«1» وذهب المحقق النائینی
فی عالم التشریع أوْلا؟
مناقشۀ السیّد الاستاذ … ص: 273
وقد اعترضه السید الاستاذ بقوله: وأمّا ما ذکره المحقّق النائینی … فهو مما لا نکاد نفهمه بأکثر من صورته اللّفظیۀ، وذلک، فإن
التشریع وجعل الحکم فعل تکوینی للمولی کسائر الأفعال التکوینیّۀ له وإنْ اختصّ باسم التشریع، فیقع البحث فی أنه یستلزم المحال أوْ
لا، ومع الشک، ما هو الأصل والقاعدة؟
.«2» وبالجملۀ، التعبیر بالإمکان التشریعی والتکوینی لا یرجع إلی اختلاف واقع الإمکان، بل هو تقسیم بلحاظ متعلّقه
وأقول:
بعبارة اخري: إن المفاهیم علی ثلاثۀ أقسام، فمنها: ما هو واقعی، ومنها: ما هو اعتباري، ومنها: ما ینقسم إلی الإعتباري والواقعی،
کالولایۀ، والملکیۀ، والدلالۀ…
لیس من المفاهیم القابلۀ للانقسام إلی التکوینی الواقعی والتشریعی الاعتباري، فالجعل فی قولنا: هل جعل الظن حجۀً « الإمکان » ولکنّ
أوْلا؟ أمر تکوینی، یدور أمره بین الوجود والعدم، نعم المجعول قد یکون تشریعیّاً وهو الحجیّۀ.
فما ذکره هذا المحقق لا یمکن المساعدة علیه.
__________________________________________________
.109 / 1) أجود التقریرات 3 )
.142 / 2) منتقی الاصول 4 )
ص: 274
قول المحقق الإصفهانی بعدم الحاجۀ إلی هذا البحث … ص: 274
أنْ لا حاجۀ إلی البحث عن الإمکان أصلًا، لأنّ المطالب علی قسمین، منها: ما یعتبر فیه الجزم «1» ثم إن المحقق الإصفهانی ذکر
صفحۀ 147 من 204
والیقین، کمسائل اصول الدین، ومنها: ما لا یعتبر فیه ذلک، وهی الأحکام الشرعیّۀ العملیّۀ، بل یعتبر فیها الحجّ ۀ، والحجۀ تجتمع مع
احتمال الاستحالۀ، وبها یسقط الاحتمال، فلا حاجۀ إلی تأسیس أصالۀ الإمکان کما ذکر الشیخ.
أقول:
وفیه: إنّ تمامیّۀ الحجۀ موقوفۀ علی تمامیۀ المقتضی وعدم المانع، فإن اندفع احتمال الاستحالۀ تمّ المقتضی، وإلّا فلا تعقل تمامیّته ولا
تتم الحجۀ، والدافع للاحتمال، إمّا عقلی وإمّا شرعی، والمفروض انتفاؤهما، فینحصر بالعقلائی وهو أصالۀ الإمکان.
الإشکالات علی الشیخ … ص: 274
قد تقدّم کلام الشیخ رحمه اللَّه، وحاصله هو القول بأصالۀ الإمکان إعتماداً علی بناء العقلاء.
وقد اورد علیه بوجوه من الإشکال:
الأوّل: منع کون سیرة العقلاء علی ترتیب آثار الإمکان عند الشکّ فیه.
والثانی: منع حجیّۀ هذه السیرة لو سلّم ثبوتها، لعدم قیام دلیل قطعی علی اعتبارها، والظن بها لو کان حاصلًا غیر مفید، لأنّ الکلام الآن
فی إمکان التعبّد بالظن، فکیف یمکن إثباته بالظن؟
__________________________________________________
.120 / 1) نهایۀ الدرایۀ 3 )
ص: 275
والثالث: إنه علی تقدیر التسلیم بالسّیرة وحجیّتها، لا فائدة فی هذا البحث أصلًا، لأنه مع قیام الدلیل علی وقوع التعبّد لا معنی للبحث
عن إمکانه، لوضوح أنّ الوقوع أخصّ من الإمکان، فثبوته کافٍ لثبوته.
.«1» وهذه الإشکالات من المحقق الخراسانی
إنه لو سلّم بالسّیرة العقلائیۀ المذکورة فهی فی الإمکان التکوینی دون الإمکان التشریعی، - «2» والرّابع- وهو من المحقق النائینی
ومحلّ الکلام هو الثانی.
أقول:
أمّا الإشکال الأخیر، فقد تقدّم منّا ما فیه، فی المراد من الإمکان.
وأمّا الإشکالات المتقدّمۀ فنقول:
إن کان المراد أنه إذا قام دلیلٌ تامٌ سنداً ودلالۀً علی الحکم الشرعی، فإن السیرة العقلائیۀ قائمۀ علی عدم الاعتناء باحتمال الاستحالۀ،-
فی غایۀ المتانۀ ولا یرد علیه الإشکال، لأنّ هذه السّیرة ثابتۀ، وهی جاریۀ من - «4» والسیّد الصّدر «3» وهذا ما احتمله السیّد الاستاذ
العقلاء فی مطلق الاحتجاجات، فإذا وصلهم الدلیل علی حکمٍ من المولی یحتجّون به ولا یجعلون احتمال الاستحالۀ عذراً لترك
العمل.
وإنْ کان المراد قیام السیرة العملیّۀ منهم فی موارد الشک فی الإمکان الذاتی أو الوقوعی علی الإمکان، فهذا غیر تام والإشکال وارد،
ولعلّ هذا هو ظاهر عبارة
__________________________________________________
. 1) کفایۀ الاصول: 276 )
.109 / 2) أجود التقریرات 3 )
.141 / 3) منتقی الاصول 4 )
صفحۀ 148 من 204
.193 / 4) بحوث فی علم الاصول 4 )
ص: 276
الشیخ بأنه عند عدم وجدان موجب الاستحالۀ، فإنّ السیرة قائمۀ علی الإمکان، إذْ أنّ هذا الإطلاق بظاهره غیر صحیح، ولذا نقول بأنّ
مراد الشیخ هو صورة کون الدلیل تامّاً فی باب الحجج والأدلّۀ علی المقاصد والمرادات، وعلیه، فلا یرد الإشکال.
وعلی الجملۀ، فإنّ إطلاق کلامه غیر صحیح، ولابدّ من الحمل علی ما ذکرناه.
علی أنه یرد علیه: أن عدم وجدان الموجب للاستحالۀ لا یکون منشأً للحکم حتی فی الأحکام العقلائیۀ، لأن الحکم عبارة عن الإذعان
والتصدیق بوجود الرابط بین المحمول والموضوع، وهذا أمر وجودي نفسانی، ولیس عدم الوجدان بدلیل علی وجود الرابط، والحکم
بالإمکان عبارة عن قضیّۀ ثلاثیۀ فی الماهیات والاعتباریات، فقولنا: التعبّد بالظن ممکن، هو مثل قولنا: زید قائم، فیحتاج وجود الرابط
إلی إقامۀ الدلیل علیه ولا یکفی للدلالۀ عدم الوجدان، والقول بأن عدم الوجدان دلیل العدم، باطل شرعاً وعقلًا وعقلاءً.
هذا بالنسبۀ إلی ما ذکره الشیخ.
ولکنّ التحقیق أنْ یقال: إن العقلاء إذا لم یجدوا موجب الاستحالۀ، یعملون بالدلیل الحجۀ الواصل ولا یرتّبون أثر الامتناع، وهذا ما
قامت علیه السیرة، وهو غیر الحکم بالإمکان.
وعلی الجملۀ، فإن السیرة العقلائیّۀ قائمۀ علی أصالۀ الإمکان، لکن بالمعنی الذي ذکرناه.
ص: 277
وجوه استحالۀ التعبّد … ص: 277
اشارة
وتصل النوبۀ حینئذٍ إلی ما قیل فی وجه استحالۀ التعبّد بالظن، وقبل الورود فی ذلک نقول:
إنّ عمدة ما یتوقف علیه الاستنباط وتحصیل الحکم الشرعی به هو الأدلّۀ الظنیۀ، وعمدتها هو خبر الثقۀ، فلابدّ من إقامۀ الدلیل القطعی
علی الحجیّۀ، ولا تتمّ إلا باندفاع جمیع ما یحتمل مانعیّته عنها، وإلّا احتجنا إلی قانون الإنسداد، وعلیه، فلا یکفی مجرّد أصالۀ الإمکان.
نعم، نحتاج إلیها فی بعض الموارد، فمثلًا: قیل: إن التعبد بالخبر یستلزم تحلیل الحرام وتحریم الحلال، فاجیب:
بإمکان وجود مصلحۀ فی التعبّد به کمصلحۀ التسهیل. لکنّ هذا الجواب لا یکفی لأن یحصل القطع بوجود المصلحۀ الراجحۀ، بل
یفید الاحتمال فقط، فنحتاج إلی أصالۀ الإمکان لدفع احتمال وجود شیء من المحذورات.
ومن هنا یظهر: إن من الأجوبۀ علی الإشکال ما یفید القطع بعدم المانع عن التعبد فلا حاجۀ إلی الأصل، وقد نحتاج إلی الأصل حیث
لا یفید الجواب القطع ویبقی الاحتمال الوجدانی، کالجواب عن شبهۀ ابن قبۀ کما سیأتی، فإنه محتاج إلی أصالۀ الإمکان.
وتلخص: ضرورة البحث عن أصالۀ الإمکان، إمّا عن طریق الشیخ أو صاحب الکفایۀ وهو الاستعانۀ بوقوع التعبّد، أو ما ذکره المحقّق
الإصفهانی من أنّ اللّاحجۀ لا یصلح لمعارضۀ الحجۀ.
هذا، وقد ذکر لاستحالۀ التعبّد بالظن وجوه:
ص: 278
الوجه الأوّل: لزوم جواز التعبّد بالخبر عن اللَّه … ص: 278
اشارة
صفحۀ 149 من 204
قوله: «1» ذکر الشیخ عن ابن قبۀ
بأنه إذا جاز التعبّد بخبر الواحد عند المعصوم جاز التعبّد به عن اللَّه، ولکنّ التالی باطل بالإجماع، فالمقدّم مثله.
بیان الملازمۀ: إنّ الخبر فی کلا الموردین واحد، وحکم الأمثال فی ما یجوز وما لا یجوز واحد.
جواب الشیخ … ص: 278
أجاب الشیخ:
أولًا: لقد قام الإجماع علی عدم وقوع التعبّد بالخبر عن اللَّه، ولم یقم علی امتناع التعبّد، فاللّازم غیر ممتنع، فالملزوم کذلک.
وثانیاً: إن محلّ الکلام یفترق عن الخبر عن اللَّه، أمّا أن التعبّد بالخبر عن اللَّه غیر جائز، فلأنه یستلزم ابتناء اصول الدین وفروعه علی
الدلیل غیر القطعی، وأمّا الخبر عن المعصوم، فهو فی ظرف تمامیۀ الاصول والفروع وابتنائها علی الأدلّۀ القطعیۀ، لکن قد خفیت
.«2» الحقائق الدینیۀ عن الناس بفعل الظالمین
أشکل علیه المحقق الخراسانی بما محصّله:
.«3» إنّ الاصول والأحکام لم تکن کلّها ثابتۀً فی زمن الأئمۀ حتی یکون خبر الواحد بعد تمامیّتها، فما ذکره الشیخ دعوي جزافیّۀ
__________________________________________________
1) هو: الشیخ أبو جعفر محمّد بن عبد الرحمن بن قبۀ الرازي، فقیه، متکلّم، من عیون الأصحاب، له کتاب الإنصاف فی الإمامۀ. )
.107 -106 / 2) فرائد الاصول 1 )
. 3) درر الفوائد فی حاشیۀ الفرائد: 33 )
ص: 279
الدفاع عن الجواب وذکر وجوه اخري … ص: 279
أقول:
إن کان مراد الشیخ أنّ ابتناء الدین فی اصوله وفروعه علی خبر الواحد باطل، بل إنّ هذا الدین قائم بالنّبی والإمام، فهو بوجوده تام
اصولًا وفروعاً قبل خبر الواحد، فلا غبار علیه.
فیکون کلامه نظیر قول المحقق ،« لکنْ عرض اختفاؤها من جهۀ العوارض وإخفاء الظالمین للحق » : ویشهد بما ذکرنا قول الشیخ
.«1» « وعدمه منّا » :… الطوسی
والحاصل: إن الدین تام بنصب النبی والإمام، ثمّ وقع التعبّد بالخبر عن النبی والإمام، وهذا التعبّد بعد فتح الباب من اللَّه وإنْ حاول
الظالمون سدّ هذا الباب أو الحیلولۀ دون دخول الناس منه أو الوصول إلیه.
وعلی الجملۀ، فإن جواب الشیخ تام ولا إشکال فیه.
ویضاف إلی جوابیه:
الجواب الثالث وهو الإشکال فی المماثلۀ بین الخبر عند اللَّه وعن المعصوم. فإنّ الخبر عن اللَّه یکون بالوحی، ولیس الخبر عن
المعصوم کذلک.
صفحۀ 150 من 204
والجواب الرابع: إن دعوي الإجماع فی مثل هذه المسألۀ غیر مسموعۀ، لأنها مسألۀ عقلیّۀ.
والخامس: إن المسألۀ غیر معنونۀ فی کتب قدماء الأصحاب.
هذا بالنسبۀ إلی الوجه الأوّل. ولا یخفی اختصاصه بالخبر.
__________________________________________________
.491 - 1) شرح التجرید: 490 )
ص: 280
وأمّا غیره من الوجوه، فهو متوجّه إلی الخبر وغیر الخبر من الأمارات والحجج والاصول والقواعد، فلا یخفی حینئذٍ أهمیّۀ هذا البحث
وضرورة الجواب عن الإشکالات، فالبحث یعم کلّ ما لم یکن علمیّاً ممّا تعبد به الشارع المقدّس، ولذا نري عنوان البحث فی الکفایۀ
أعم منه فی الرسائل. فالشیخ قال:
فی إمکان التعبد بالظن، والمحقق الخراسانی قال: فی إمکان التعبّد بالأمارات غیر العلمیّۀ شرعاً.
الوجه الثانی: لزوم المحذور من ناحیۀ الملاك … ص: 280
اشارة
ففی مرحلۀ الملاك یلزم محذور مهمّ جدّاً، وقد اختلفت کلمات الأعلام فی تقریب هذا المحذور، نتعرّض لجملۀٍ منها وننظر فیها:
تقریب الشیخ … ص: 280
وقد قرّبه الشیخ بقوله:
.«1» إن العمل به موجب لتحلیل الحرام وتحریم الحلال، إذ لا یؤمن أنْ یکون ما أخبر بحلیّته حراماً وبالعکس
وتوضیحه:
إنّ الأحکام الشرعیّۀ- بناءً علی الحق- تابعۀ للمصالح والمفاسد الواقعیّۀ، فنسبتها إلی الملاکات نسبۀ المعالیل إلی العلل، فبناءً علی
التعبّد بالظن، یلزم تحلیل الحرام وتحریم الحلال، وخروج الأحکام عن التبعیّۀ للملاکات، ویلزم تفویت المصلحۀ أو الإلقاء فی
المفسدة، وکلّ ذلک ممتنع علی المولی الحکیم.
__________________________________________________
.106 -105 / 1) فرائد الاصول 1 )
ص: 281
تقریب المیرزا النائینی … ص: 281
وقال المیرزا فی تقریبه ما نصّه:
وأمّا توهّم المحذور من ناحیۀ الملاك، فغایۀ ما یمکن أن یقال فی تقریبه هو: أنّ الأحکام الشرعیّۀ لا محالۀ تکون تابعۀً لملاکاتها،
صفحۀ 151 من 204
نظیر تبعیّۀ المعالیل لعِلَلها علی ما أوضحنا الحال فی ذلک سابقاً، وحیث إنّ الأمارة غیر العلمیّۀ ربما تکون مصیبۀً واخري مخطئۀً، فإذا
قامت علی حکمٍ غیر إلزامیّ وفرضنا کون الحکم الواقعی إلزامیّاً وجوبیّاً کان أو تحریمیّاً، فیلزم من التعبّد بها وجَعْلها حجّ ۀً تفویتُ
الملاك الواقعی الملزم؛ إذ لو لم یکن مُلزماً لما أمکن استتباعه لحکمٍ إلزامیّ، کما هو واضح، ومع فرض کونه مُلزماً، کیف یمکن
للشارع تفویته بجَعْل أمارةٍ علی خلافه!؟
وبالجملۀ، فرض جَعْل الأمارة حجّ ۀً مع فرض کون الحکم الواقعی إلزامیّاً ناشئاً عن ملاكٍ ملزم، نقضٌ للغرض، وهو قبیح بالضرورة،
وإلی هذا یشیر ما نُقل عن الخصم من أنّ التعبّد بالأمارة غیر العلمیّۀ مستلزم لتحلیل الحرام وهو قبیح، کما أنّ الأمارة إذا قامت علی
حکمٍ إلزامیّ وجوبیّ أو تحریمی وفرضنا الحکم الواقعی غیر إلزامیّ، یلزم من التعبّد بها وإیجاب العمل علی طبقها، کون الحکم
الإلزامیّ من دون ملاكٍ یقتضیه؛ إذ المفروض أنّ الفعل الذي أدّي الأمارة إلی وجوبه أو تحریمه عارٍ عن الملاك المُلزم، فجَعْل
الحکم الإلزامی له بجَعْل الأمارة حجّ ۀً، یستلزم عدم تبعیّۀ الأحکام للمصالح أو المفاسد، وهذا غیر معقول، کما عرفت، وإلیه یشیر ما
نُقل عنه من أنّ التعبّد بالأمارة غیر العلمیّۀ مستلزم لتحریم الحلال وهو قبیح.
ص: 282
والحاصل: أنّ الأمارة إذا کانت مخالفۀً للحکم الواقعی، یلزم من جَعْلها حجّۀً یجب العمل علی طبقها، إمّا کونُ الحکم الإلزامی مجعولًا
.«1» من دون ملاك، وإمّا تفویت الملاك الملزم، وکلاهما قبیح
النّظر فی التقریب المذکور … ص: 282
وفی هذا التقریب نظر، ففی تحریم الحلال بالأمارة لیس المحذور هو الإلقاء فی المفسدة أو تفویت المصلحۀ، بل هو جعل الحکم بلا
ملاك، أمّا فی تحلیل الحرام بها، فهو الإلقاء فی المفسدة من حیث الواقع، والحکم بلا ملاك من حیث الحلیّۀ. وأمّا محذور نقض
الغرض، فإن قوام الغرضیّۀ هو الإرادة القطعیّۀ ولابدیّۀ الوجود، فإذا تعلّقت هذه الإرادة بالشیء استحال نقضها.
ولا یخفی الفرق بین محذور نقض الغرض ومحذور الإلقاء فی المفسدة، فإنّ الأول لا یکون من أيّ أحدٍ حتی لو لم یکن حکیماً،
والثانی إنما لا یصدر من الحکیم.
وعلیه، فإنّ القبیح هو تحلیل الحرام وتحریم الحلال، ولکنّ نقض الغرض محال، وبعبارة اخري: المحذور علی تقدیرٍ هو لزوم الامتناع
علی الحکیم، ولزوم الامتناع بقولٍ مطلقٍ علی تقدیر آخر. وقد وقع الخلط بینهما فی کلام المیرزا کما لا یخفی.
تقریب المیرزا الشیرازي … ص: 282
وجاء فی تقریر بحث السیّد المیرزا الشیرازي الکبیر رحمه اللَّه ما نصّه:
أقول قبل الخوض فی المقام: ینبغی تمهید مقال، فاعلم:
__________________________________________________
.111 -110 / 1) أجود التقریرات 3 )
ص: 283
إن المراد بالإمکان المتنازع فیه إنما هو الإمکان العام وهو المقابل للامتناع، إذ النزاع إنما هو مع من یدّعی الامتناع، فالغرض إنّما هو
مجرّد نفی الامتناع الأعمّ من وجوب التعبّد بالظنّ فی بعض الموارد، ومرجع القولین إلی دعوي حسن التعبّد به وقبحه، لا إلی قدرة
صفحۀ 152 من 204
الشارع علی التعبّد به وعدمها، فیرجع النزاع إلی أنه هل یحسن من الشارع التعبّد به أو یقبح، کما یظهر من دلیل مدّعی الامتناع؟
والظاهر أنّه إنّما یدّعی الامتناع العرضیّ لا الذاتیّ، کما یظهر من احتجاجه علیه بلزوم تحلیل الحرام وتحریم الحلال، فإنه ظاهر- بل
صریحٍ- فی أنّ القبح التعبّد بالظنّ إنّما هو من جهۀ استلزامه لذلک المحذور، لا مطلقاً، فعلی هذا لا ینفع مدّعی إمکانه إثباته بالنظر
إلی ذاته، بل علیه إمّا دفع ذلک الاستلزام، أو منع قبح اللّازم.
ثمّ المراد بالتعبّد بالظن هنا، لیس اعتباره والحکم بالأخذ به من باب الموضوعیّۀ؛ لأنه بهذا المعنی لا یرتاب أحد فی إمکانه، فإنه-
حینئذ- کسائر الأوصاف المأخوذة کذلک، وهو لا یقصر عن الشکّ من هذه الجهۀ، بل إنّما هو اعتباره علی وجه الطریقیۀ لمتعلّقه؛
بمعنی جعله حجّۀ فی مؤدّاه کالعلم وتنزیله منزلته، بإلغاء احتمال خلافه فی جمیع الآثار العقلیّۀ للعلم من حیث الطریقیّۀ.
وبعبارة اخري جعله طریقاً إلی متعلّقه کالعلم الذي هو طریق عقلیّ إلی متعلّقه، والمعاملۀ معه معاملۀ العلم الطریقیّ وترتیب آثار طریقیّۀ
علیه، من معذوریّۀ المکلّف معه فی مخالفۀ التکلیف الواقعیّ علی تقدیر اتّفاقها بسبب العمل به، کما إذا کان مؤدّاه نفی التکلیف مع
ثبوته فی مورده واقعاً، فلم یأت المکلّف بذلک المحتمل التکلیف استناداً إلیه، ومن المعلوم معذوریّته وصحّۀ
ص: 284
مؤاخذته وعقابه علیها إذا کان مؤدّاه ثبوت التکلیف، وکان الواقع ثبوته- أیضاً- ولم یأت المکلّف بذلک الذي قام هو علی التکلیف
به.
فیکون هو علی تقدیر اعتباره حجّ ۀ قاطعۀ للعذر فیها بین الشارع والعباد علی الوجه المذکور کالعلم، ویکون الفرق بینهما مجرّد کون
حجّیّۀ العلم بهذا المعنی بحکم العقل، وکون حجیته بحکم الشارع وجعله، فیکون کالعلم قاطعاً لقاعدتی الاشتغال والبراءة العقلیّتین إذا
قام علی خلافهما، فإنّ العقل إنّما یحکم فی الاولی بلزوم الاحتیاط تحصیلًا للأمن من عقاب مخالفۀ الواقع بعد ثبوت التکلیف به، وفی
الثانیۀ بجواز ترکه؛ نظراً إلی قبح العقاب بلا بیان الذي هو الواقع لاحتمال العقاب، وکلّ واحد من حکمیه ذینک تعلیقیّ بالنسبۀ إلی
جعل الشارع للظنّ المسبب المشکوك فی الموردین طریقاً وحجّۀ فی إثباته، إذ معه یرتفع موضوعا القاعدتین؛ لأنه بعد اعتباره یکون
حجّ ۀ فی إثبات التکلیف بمحتمله فی الثانیۀ، وبیاناً له فلا یعذر (معه) المکلّف فی مخالفته علی تقدیرها وفی کون الواقع هو خصوص
مؤدّاه فی الاولی، فیعذر المکلف فی مخالفته علی تقدیر کونه مع إتیانه بمؤدّاه، فمع إتیانه بمؤدّاه- حینئذ- لا یحتمل العقاب علی
مخالفۀ الواقع؛ حتی یحکم العقل بلزوم تحصیل الأمن منه.
وبالجملۀ: النزاع فی المقام إنّما هو فی إمکان التعبّد بالظنّ علی (وجه) الطریقیۀ بالمعنی الذي عرفت.
ویظهر ذلک- أیضاً- من احتجاج منکره باستلزامه لتحلیل الحرام وتحریم الحلال؛ لأنه- علی تقدیر اعتباره من باب الموضوعیّۀ- لا
حرمۀ واقعاً فیما إذا کان مؤدّاه هو الإباحۀ، ولا إباحۀ فیه إذا کان مؤدّاه هو الحرمۀ، وإنّما یبقی الواقع علی
ص: 285
حاله التی کان علیها بدونه علی تقدیر اعتباره من باب الطریقیۀ المحضۀ.
ومن هنا ظهر: أنه لا مجال لردّ المنکر بإمکان التعبّد بالظن علی وجه التصویب، لأنه معنی اعتباره من باب الموضوعیۀ، ولا کلام فیه.
إذا عرفت ذلک فاعلم: أنّ المعروف هو الإمکان، وهو الحق الذي ینبغی المصیر إلیه.
لنا: عدم القبح فی التعبّد بالظن علی الوجه المذکور، حتّی مع تمکّن المکلّف من تحصیل نفس الواقع علی ما هو علیه؛ لأنّ غایۀ ما
یتصوّر منشأ للقبح أحد امور علی سبیل منع الخلوّ، والذي یقتضیه النظر عدم صلاحیّۀ شیء منها لذلک.
توضیح توهّم قبح التعبّد به: أنه لا ریب فی أنّ الظنّ لیس مصادفاً للواقع دائماً، وإلّا لم یکن ظنّاً، فحینئذ إذا تعبّدنا الشارع به والسلوك
علی طبقه علی الإطلاق- کما هو المفروض- یلزم فیه فیما إذا خالف الواقع، أحد امور ثلاثۀ- لا محالۀ- إن لم یلزم کلّها:
أحدها: نقض غرضه من التکلیف الواقعی الموجود فی محلّه الذي أدّي هو إلی نفیه وتفویت العمل علی طبقه، فإنّ الغرض منه: إما
صفحۀ 153 من 204
إیجاد خصوص الفعل، فالمفروض تفویته بترخیصه العمل بما أدّي إلی عدمه، وإما وصول مصلحۀ إلی المکلّف، فالمفروض- أیضاً-
تفویتها علیه.
وثانیها: تفویت مصلحۀ الواقع علی المکلّف، کما إذا کان الفعل فی الواقع واجباً أو مندوباً، وأدّي الظنّ إلی إباحته أو کراهته أو حرمته
أو إیقاعه فی مفسدة الواقع، کما إذا کان الفعل واقعاً حراماً، وأدّي الطریق إلی إباحته أو وجوبه أو
ص: 286
استحبابه، وکلاهما خلاف اللّطف، فیکونان قبیحین، والنسبۀ بینهما وبین الأمر الأوّل هو العموم من وجه، إذ قد (لا) یکون الغرض
خصوص إیجاد الفعل، بل یکون الغرض إیصال المکلّف إلی مصلحته أو صونه عن مفسدته.
وثالثها: التناقض، فإنه إذا کان الظنّ مخالفاً للواقع، فیجتمع فی مورده حکمان متناقضان، أحدهما: مؤدي الظن، والآخر: مؤدّي الخطاب
الواقعی، من غیر فرق فی ذلک بین أن یکون مؤدّي الظنّ هو الوجوب، مع کون الحکم الواقعی هو الحرمۀ، أو العکس، وبین أن
یکون مؤدّاه الإباحۀ أو الاستحباب، مع کون الحکم الواقعیّ هو الحرمۀ، أو العکس؛ لأنّ الأحکام الخمسۀ بأسرها متناقضۀ، یمتنع
إجتماع اثنین منها فی مورد واحد ولو مع تعدّد الجهۀ، کما هو الحال فی المقام؛ نظراً إلی أنّ الحکم الظاهري فی محلّ الفرض إنما
.«1 …» جاء من جهۀ قیام الظنّ فیه علیه
النظر فی التقریب المذکور … ص: 286
وفی هذا التقریب نظر کذلک، مع غضّ النظر عمّا فیه من بعض التعبیرات، کقوله بالتناقض فی الأحکام الخمسۀ، إذ الأحکام لیست
متناقضۀ بل هی متضادّة، ولعلّه- إن کان الکلام منه لا من المقرّر- یرید أنّ کلّ تناقض فإنه یؤول إلی التضادّ.
ووجه النظر هو: أنّه أرجع البحث- بین المثبت لإمکان التعبّد بالأمارة غیر العلمیّۀ والمنکر له- إلی الحسن والقبح، فالمدّعی للإمکان
یدّعی الحسن والمنکر یدّعی القبح فیه.
فیرد علیه: إن اجتماع النقیضین والضدّین والمثلین لا ربط له بحکم العقل
__________________________________________________
.354 -351 / 1) تقریرات بحث المیرزا الشیرازي 3 )
ص: 287
العملی، بل هو من أحکام العقل النظري، ولیست ممّا تتعلّق به القدرة، فکیف یُجعل وجه الإنکار أحد الوجوه الثلاثۀ علی نحو منع
الخلوّ، ومع ذلک یدّعی أن البحث بین الطرفین یدور مدار الحسن والقبح؟
هذا، مضافاً إلی تعرّضه لنقض الغرض، فیرد علیه ما ورد علی المیرزا النائینی.
فظهر:
إنّ المحذور، أمّا بالنسبۀ إلی الإلقاء فی المفسدة وتفویت المصلحۀ من الحکیم، فهو من أحکام العقل العملی، وأمّا بالنسبۀ إلی اجتماع
الضدّین أو النقیضین أو المثلین أو نقض الغرض، فمن أحکام العقل النظري.
وهذا هو الصحیح فی تقریب الإشکال.
وبعد، فقد اجیب عن الوجه الثانی بوجوه:
جواب المحقق الفشارکی عن الوجه الثانی … ص: 287
صفحۀ 154 من 204
فالأول، ما أفاده السید المحقق الفشارکی وتبعه الشیخ الحائري، وهو:
إنّ الأوامر الظّاهریّۀ لیست بأوامر حقیقیۀ، بل هی إرشاد إلی ما هو أقرب إلی الواقعیات، وتوضیح ذلک- علی نحو یصح فی صورة
انفتاح باب العلم ولا یستلزم تفویت الواقع من دون جهۀ- أن نقول: إن إنسداد باب العلم کما أنه قد یکون عقلیّاً، کذلک قد یکون
شرعیّاً، بمعنی أنه وإن أمکن للمکلّف تحصیل الواقعیات علی وجه التفصیل، لکن یري الشارع العالم بالواقعیّات أن فی التزامه بتحصیل
الیقین مفسدة، فیجب بمقتضی الحکمۀ دفع هذا الالتزام عنه، ثم بعد دفعه عنه لو أحاله إلی نفسه یعمل بکلّ ظن فعلیّ من أيسبب
حصل، فلو رأي
ص: 288
الشارع بعد أن صار مآل أمر المکلّف إلی العمل بالظن، أن سلوك بعض الطرق أقرب إلی الواقع من بعض آخر، فلا محذور فی
إرشاده إلیه، فحینئذٍ نقول:
أما اجتماع الضدّین، فغیر لازم، لأنه مبنی علی کون الأوامر الطرقیّۀ حکماً مولویّاً، وأما الإلقاء فی المفسدة وتفویت المصلحۀ، فلیس
.«1» بمحذور بعدما دار أمر المکلّف بینه وبین الوقوع فی مفسدة أعظم
أقول:
وحاصله: إنه قد یلزم من الإلزام بالیقین مفسدة أعظم من التعبّد بالظن، فیتعبّد الشارع بالظن حتی لا تفوت مصلحۀ الظنّ، کما لو یلزم
من الإلزام بالعلم والیقین بالأخذ من الإمام، مفسدة إراقۀ الدماء من ناحیۀ امراء الجور مثلًا، فحینئذٍ:
لا مناص من التعبّد بالظن والأخذ بمفاده دفعاً لتلک المفسدة التی هی أعظم.
لکن یرد علیه:
إنه أخصّ من المدّعی، کأن یفرض البحث فی زمن النّبی صلّی اللَّه علیه وآله حیث لا مفسدة للإلزام بالعلم والیقین. هذا أوّلًا.
وثانیاً: إنّ هذا خلاف الضرورة، إذ لا ریب فی أنه لا یوجد فی الشریعۀ مورد یکون تحصیل الیقین والعمل به محرّماً بأصل التشریع
وبالعنوان الأوّلی.
وثالثاً: لو فرض وجود المفسدة الأهم فی الإلزام بالیقین فی مورد، فإنه یکون من صغریات التزاحم فی مرحلۀ الملاکات، وحینئذٍ، ترفع
الید عن الحکم المترتب علیه المفسدة العظیمۀ، وإنْ کان الملاکان متساویین، فالحکم هو التخییر.
__________________________________________________
.355 -354 (2 - 1) درر الفوائد ( 1 )
ص: 289
جواب المحقق النائینی … ص: 289
من أنه لا مفسدة فی التعبّد بالظن، ولا یلزم تحلیل الحرام وتحریم الحلال. «1» والثانی: ما ذکره المیرزا
فالصغري غیر تامّۀ.
جواب المحقق الخراسانی … ص: 289
صفحۀ 155 من 204
والثالث: إنه علی فرض لزوم ذلک، فإن مقتضی تقدیم مصلحۀ التسهیل علی المکلّفین هو عدم الإلزام بالیقین، وجعل الطرق
والأمارات، وحینئذٍ، لا قبح للإلقاء فی المفسدة أو تفویت المصلحۀ.
.«2» وإلی هذا یرجع کلام صاحب الکفایۀ
تفصیل الکلام فی الجواب عن الوجه الثانی … ص: 289
أقول:
حاصل الجوابین: إنکار الصغري أو إنکار الکبري بعد التسلیم بالصغري، وتحقیق المرام فی المقام یکون بالبحث تفصیلًا فی الجهتین،
فنقول:
الجهۀ الاولی: فی الصغري … ص: 289
وهی: هل یلزم من التعبّد بالظن تفویت المصلحۀ والإلقاء فی المفسدة أوْلا؟
وهل یلزم ذلک بناءً علی جعل السببیّۀ للأمارات، أو علی جعل الطریقیّۀ؟
وبناءً علی القول الثانی، یطرح البحث تارة: فی صورة انفتاح باب العلم،
__________________________________________________
.190 / 1) فوائد الاصول 3 )
. 2) کفایۀ الاصول: 277 )
ص: 290
واخري: فی صورة الانسداد.
ولا یخفی الفرق بین المحاذیر، لأنّ تحریم الحلال إشکاله هو عدم التبعیّۀ للملاك، إذ لیس فیه إلقاء فی المفسدة ولا تفویت
للمصلحۀ. أمّا تحلیل الحرام، فالإشکال فیه هو الإلقاء فی المفسدة وهو من المولی قبیح.
أمّا بناءً علی السببیّۀ
فعلی قول الأشاعرة من أنّ الأحکام الشرعیّۀ تابعۀ للأمارات، وأنّ قیام الأمارة هو تمام الموضوع للملاك، فلا یوجد فی الواقع ملاك،
فلا یلزم أيّ محذور أصلًا، لعدم لزوم مفسدة من التعبّد بالظن.
لکن هذا القول باطل، کما ثبت فی محلّه.
وعلی قول المعتزلۀ، من أن قیام الأمارة عنوان ثانوي یوجب انقلاب المصلحۀ أو المفسدة فی العنوان الأوّلی، فالمحذور غیر لازم
کذلک.
لکنّه قول باطل، لأن قیام الأمارة لیس من العناوین الثانویۀ الموجبۀ لتغیّر الحکم کالحرج والاضطرار، کما بُیّن فی محلّه.
إنما الإشکال فی ما ذهب إلیه الشیخ، وهو: الالتزام بوجود المصلحۀ فی السّلوك علی طبق الأمارة، فبمقدار الوقوع فی خلاف الواقع
من الالتزام بمقتضی الطریق وتفویت المصلحۀ من ذلک، یکون التدارك من الشارع بجعل المصلحۀ فی نفس سلوك الطریق، ولا
یبقی محذور.
هکذا قالوا.
صفحۀ 156 من 204
ولکنّ التحقیق ورود المحذور علی هذا المبنی، لأنّ التدارك لا یرفع القبح، ولذا لو أتلف الإنسان مالًا لغیره، ثم أدّي مثله أو قیمته
وحصل التدارك للمال
ص: 291
المتلف، کان قبح التصرّف فی مال الغیر باقیاً علی حاله حتی لو لم یفّوت بذلک غرضاً من أغراضه.
وعلی الجملۀ، فإنّ التدارك مثبت ومحقّق لموضوع القبح ولیس رافعاً له عند العقل، إلّاأنْ یقال بأنّ موضوع الحکم بالقبح هو
المصلحۀ غیر المتدارکۀ، فیرتفع الإشکال فی ناحیۀ المصلحۀ ولکنّه یبقی فی ناحیۀ المفسدة.
ولکنّ المبنی من أصله باطلٌ، کما تقرّر فی محلّه.
هذا کلّه بناءً علی السببیّۀ.
وأمّا بناءً علی الطریقیّۀ
بمعنی أن الشارع یجعل الطریق، فإنْ أدّي إلی الواقع فهو، وإلّا فالمکلّف معذور من قبله.
فیقع البحث بین الأعاظم قدّس اللَّه أسرارهم تارةً: فی ظرف الإنسداد، واخري: فی ظرف الانفتاح.
أمّا فی ظرف الإنسداد
بأن یجعل الشارع طریقاً یلزم منه الإلقاء فی المفسدة أو تفویت المصلحۀ أو تفویت مصلحۀ الترخیص فی المباح، فنقول:
إنْ لزم تفویت مصلحۀ الترخیص، فالمفروض عدم لزوم الاحتیاط، لاستلزامه اختلال النظام، ویکون المرجع حینئذٍ قاعدة قبح العقاب
بلا بیان، ولا یلزم تفویت المصلحۀ.
وأمّا تفویت مصلحۀ الواجب والإلقاء فی المفسدة، فکذلک، لأن الشارع لمّا لم یجعل الاحتیاط، فالمرجع هو القاعدة المذکورة.
ص: 292
فلا محذور فی ظرف الانسداد.
وتفصیل ذلک:
أمّا فی تحریم الحلال عند الانسداد، فإنّ منشأ الحلیّۀ تارة: هو اللّااقتضاء، وتحریم هکذا حلال لا إشکال فیه، لا بالنسبۀ إلی المتعلّق ولا
بالنسبۀ إلی الحکم، فإنه لا مانع من أنْ یمنع عن جائزٍ، من أجل التحفّظ علی الواقع. واخري: هو الإقتضاء، أيالمصلحۀ فی الترخیص،
فهنا أیضاً لا یلزم الإشکال من جهۀ الإلقاء فی المفسدة بالنسبۀ إلی المتعلّق أو تفویت مصلحته.
ویبقی فقط الإشکال بلزوم تفویت المصلحۀ الخاصۀ القائمۀ فی الترخیص علی أثر جعل الأمارة. وسیأتی حلّ هذا الإشکال.
وأمّا فی تحلیل الحرام، بأنْ یلزم من جعل الأمارة الإلقاء فی المفسدة وفوت المصلحۀ الملزمۀ، فللإشکال جهتان:
الاولی: من جهۀ نفس المتعلّق، فإنه فی ظرف الإنسداد إنْ جعل الشارع الطریقیّۀ لخبر الثقۀ مثلًا وقام علی إباحۀ حرامٍ، یلزم الإلقاء فی
مفسدة الحرام من ناحیۀ هذا الجعل، وإن قام علی إباحۀ واجب، لزم تفویت مصلحۀ الواقع.
والثانیۀ: من جهۀ أن إیجاب الواجب وتحریم الحرام الواقعی، لا یکون بلا غرضٍ، وهذا الغرض ینتقض علی أثر جعل الإمارة.
والجواب عن الإشکال فی الجهۀ الاولی- وکذا الإشکال الباقی فی تحریم الحلال- هو:
أنّ المرجع فی مفروض الکلام لیس إلّاالبراءة العقلیّۀ، فلولم یجعل الشارع الحجیّۀ للطرق، کانت البراءة هی السبب لوقوع المکلّف فی
المفسدة أو تفویت
ص: 293
المصلحۀ، والقبیح بحکم العقل هو إیقاع الشارع المکلّف فی المفسدة، أمّا المکلّف فهو واقع فیها علی کلّ حالٍ، والإلقاء غیر منتسب
إلی الشارع، ویکفی لرجحان جعل الأمارة أن یکون الوقوع فی المفسدة أو تفویت المصلحۀ أقلّ، فلم یتحقّق من الشارع قبیح، بل
صفحۀ 157 من 204
الصّادر منه لیس إلّاالخیر.
نعم، لو کانت الوظیفۀ فی ظرف الإنسداد هو الإحتیاط عقلًا، کان جعل الأمارة من الشارع قبیحاً.
وأمّا فی ظرف الانفتاح
وهو العمدة، فلحلّ المشکل طریقان:
أحدهما: إنّه لا إلقاء فی المفسدة. قاله المیرزا.
والثانی: إنّ الإلقاء فی المفسدة لیس قبیحاً ذاتاً. قاله صاحب الکفایۀ.
أمّا أنه لیس فی المورد إلقاء فی المفسدة، وهو إنکار الصغري، کما ذکرنا من قبل فتوضیحه:
إن فی جعل الطرق والأمارات مصلحۀً نوعیّۀ، هی مصلحۀ التسهیل، وهذه المصلحۀ قد تتقدّم فی نظر الشارع علی الملاکات الواقعیّۀ،
ولا یري العقل فی ذلک قبحاً، ومن ذلک: حکم الشارع بطهارة الحدید تسهیلًا علی العباد لابتلائهم غالباً باستعماله فی شئونهم
المختلفۀ، وإلّا فالنصوص المعتبرة دالّۀ علی نجاسته، فکما لا یکون الحکم بالطّهارة هناك إلقاءً فی المفسدة أو تفویتاً لمصلحۀٍ حتی
یحکم العقل بالقبح، کذلک الحال فی التعبّد بالأمارات بناءً علی الطریقیّۀ، ومن هذا الباب: إرجاع الأئمۀ علیهم السلام فی زمن
حضورهم إلی بعض الأصحاب، کإرجاع الإمام الرضا علیه السّلام عبدالعزیز بن المهتدي إلی یونس بن
ص: 294
إنّ شقّتی » : عبدالرحمن، مع کون باب العلم- وخاصّۀً الواقعی- بالرجوع إلی الإمام ممکناً، لکنّه أرجعه إلی یونس تسهیلًا له، لأنّه قال
.«1» « بعیدة فلست أصل إلیک فی کلّ وقت
وأمّا أنّ الإلقاء فی المفسدة لیس من القبیح الذاتی، وهذه هی:
الجهۀ الثانیۀ: فی الکبري … ص: 294
فتقریب ذلک هو:
إنه لیس للشارع فی موارد الأمارات والطّرق جعلٌ تأسیسی، بل إنه إمضاء للسّیرة العقلائیۀ، لأنّ العقلاء یرون الطریقیّۀ للأمارات إلی
الواقع ویرتّبون الأثر علیها، ولم یرد من الشارع ردعٌ عن هذه السیرة، فلو کان لا یرضی بترتیب الأثر علیها لردع عنها الرّدع القويّ کما
فعل بالنسبۀ إلی القیاس، إذ ورد عنه فی النهی عن القیاس مئات الأخبار بالألسنۀ المختلفۀ، لوجود المفسدة العظیمۀ فی الأخذ به فی
الدین، وحیث أنه لا مفسدة فی العمل طبق الأمارات، ولو کانت فهی مندکّۀ فی مصلحۀ التسهیل، مضافاً إلی کونها فی الأغلب مطابقۀً
للواقع وتخلّفها عنه قلیل جدّاً، فإنه لا محالۀ یکون الرّدع عن ترتیب الأثر علیها بلا ملاك، کما لا یمکن الرّدع فی صورة عدم إمکان
الوصول إلی الواقع، لأنه ینافی مصلحۀ التسهیل.
مناقشۀ ما ذکر فی الجهتین … ص: 294
ولکنْ فی ما ذکر فی کلتا الجهتین نظر.
أمّا ما ذکر فی جهۀ الصغري، فإنّ الملاك لنجاسۀ الحدید قد اندكّ فی مصلحۀ التسهیل علی أثر المزاحمۀ معها، فکان الحکم الفعلی
للحدید هو
__________________________________________________
صفحۀ 158 من 204
. 148 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضی، رقم: 35 / 1) وسائل الشیعۀ 27 )
ص: 295
الطهارة، لکنّ غلبۀ المصلحۀ المذکورة فی موارد مخالفۀ الطّرق للواقع علی ملاکات الأحکام الواقعیّۀ، تستلزم تقیید إطلاق أدلّۀ تلک
الأحکام، وذلک یستلزم التصویب، فما ذکره الأعلام فی دفع شبهۀ ابن قبۀ یوقعهم فی إشکالٍ أقوي وآکد.
وأمّا ما ذکر فی جهۀ الکبري، فإنه وإنْ کان تامّاً من النّاحیۀ الکبرویّۀ، لکنّ هذا التقریب یتوقف علی کفایۀ عدم الردع للإمضاء
الکاشف عن الرضا، وهو أوّل الکلام.
ثم إنّ موضوع الاعتبار هو الطریق العقلائی مع عدم الردع الکاشف عن الرضا والإمضاء، وإمضاء الطریق العقلائی یکون بالاعتبار
المماثل من الشارع، بأن یجعل الشارع الطریقیّۀ للطریق کما هو عند العقلاء، وإذا تمّ هذا الإمضاء والجعل، لزم وقوع التزاحم بین
مصلحۀ هذا الإمضاء ومصلحۀ الواقع الملزم للأحکام الشرعیۀ، ویعود الإشکال.
مضافاً إلی أنّ الالتزام بعدم القبح فی تفویت مصلحۀ الواقع والإلقاء فی المفسدة- لعدم التمکّن من التحفّظ علی الأغراض والملاکات
فی متعلّقات الأحکام- ینتهی إلی نحوٍ من التصویب.
حلّ المشکلۀ … ص: 295
لکنّ المشکلۀ تنحلّ بنفی لزوم التزاحم من أصله، بأن نقول:
إن تحقق التزاحم بین الملاکات والأغراض، فرع کونها فی العَرض، لأن التزاحم هو التمانع- فإنْ کان بین الملاکات اصطلح علیه
بالتزاحم، وإن کان بین الحجج والأدلّۀ اصطلح علیه بالتعارض- والتمانع إنما هو إذا کان الطرفان فی مرتبۀٍ واحدة، ومصلحۀ التسهیل
لیست مع مصلحۀ الواقع فی مرتبۀٍ واحدة، لأنّ الطریق
ص: 296
دائماً متقوّم بذي الطریق- ولیس ذو الطریق متقوماً بالطریق- ولذا ورد الإشکال علی الأشاعرة باستلزام ما ذهبوا إلیه للدور، لأنّ الأمارة
فرع لذي الأمارة، فإن کان ذو الأمارة فرعاً لها لزم الدور.
وعلیه، فإن مصلحۀ التسهیل قائمۀ بالطریق، والطریق قائم بذي الطریق وهو الواقع، فکانت مصلحۀ التسهیل فی طول الواقع لا فی عرضه،
فلا تمانع، فلا یلزم الإلقاء فی المفسدة ولا یلزم التصویب.
نعم، یتحقّق التمانع فیما إذا کان غرضیّۀ الغرض یستدعی جعل الاحتیاط بالإضافۀ إلی الحکم المجعول، فیکون مصلحۀ جعل الاحتیاط
فی مرتبۀ مصلحۀ التسهیل ویقع التزاحم، لکنّ هذا أمر آخر.
فشبهۀ ابن قبۀ مندفعۀ والحمد للَّه.
الوجه الثالث: لزوم المحذور من ناحیۀ الخطاب … ص: 296
وقد جمعوا تحت هذا العنوان لزوم المحذور فی ثلاثۀ مراحل:
-1 مرحلۀ الإرادة والکراهۀ، کما لو کان الحاکم مریداً للفعل، فکان الحکم الواقعی هو الوجوب، فهل یجوز التعبّد بالأمارة القائمۀ
علی الحرمۀ؟ ألا یلزم اجتماع الإرادة والکراهۀ فی نفس الحاکم؟
-2 مرحلۀ الحکم، کما لو کان الحکم الواقعی هو الوجوب، فقامت الأمارة علی الترخیص فیه، فکیف یجتمع الترخیص وعدم
الترخیص فی الشیء؟
صفحۀ 159 من 204
-3 مرحلۀ الامتثال، فلو کان الحکم الواقعی هو الوجوب، فیقتضی الإتیان بالعمل، ثم قامت الأمارة الدالّۀ علی الحرمۀ، وتقتضی الترك،
فکیف یجتمع الفعل والترك؟ وهذه مشکلۀ:
ص: 297
الجمع بین الحکم الواقعی والحکم الظّاهري … ص: 297
اشارة
وتقریرها بإیجاز هو: إنّ الأحکام الخمسۀ متضادّة، فإذا کان الحکم الواقعی هو الوجوب وقامت الأمارة علی طبقه، لزم اجتماع المثلین،
أو علی نفی الوجوب، لزم اجتماع النقیضین، أو علی الحرمۀ، لزم اجتماع الضدّین، وهذا هو المحذور الخطابی.
وقد حاول المحقّقون الأعلام حلّ هذه المشکلۀ ورفع المحذور بجمیع جهاته، بالجمع بین الحکمین، وذکروا لذلک عدّة طرق:
طریق الشیخ … ص: 297
قد ذکر الشیخ رحمه اللَّه الإشکال بقوله:
إذا فرضنا الشیء فی الواقع واجباً وقامت أمارة علی تحریمه، فإن لم یحرم ذلک الفعل، لم یجب العمل بالأمارة، وإنْ حرم، فإنْ بقی
الوجوب لزم اجتماع الحکمین المتضادّین، وإنْ انتفی ثبت انتفاء الحکم الواقعی.
ثم أجاب عن ذلک قائلًا:
أنّ المراد بالحکم الواقعیّ الذي یلزم بقاؤه، هو الحکم المتعیّن المتعلّق بالعباد الذي یحکی عنه الأمارة ویتعلّق به العلمُ أو الظنّ وامر
السفراء بتبلیغه، وإن لم یلزم امتثاله فعلًا فی حقّ من قامت عنده أمارةٌ علی خلافه، إلّاأنّه یکفی فی کونه حکمه الواقعی: أنّه لا یعذر فیه
إذا کان عالماً به أو جاهلًا مقصّراً، والرخصۀ
ص: 298
فی ترکه عقلًا کما فی الجاهل القاصر، أو شرعاً کمن قامت عنده أمارةٌ معتبرة علی خلافه.
وممّا ذکرنا یظهر حال الأمارة علی الموضوعات الخارجیّۀ؛ فإنّها من هذا القسم الثالث.
والحاصل: أنّ المراد بالحکم الواقعی، هی: مدلولات الخطابات الواقعیّۀ الغیر المقیّدة بعلم المکلّفین ولا بعدم قیام الأمارة علی خلافها،
ولها آثارٌ عقلیّۀ وشرعیّۀ تترتّب علیها عند العلم بها أو قیام أمارةٍ حکم الشارع بوجوب البناء عل یکون مؤدّاها هو الواقع، نعم هذه
لیست أحکاماً فعلیّۀ بمجرّد وجودها الواقعی.
وتلخّص من جمیع ما ذکرنا: أنّ ما ذکره ابنُ قبۀ- من استحالۀ التعبّد بخبر الواحد أو بمطلق الأمارة الغیر العلمیّۀ- ممنوع علی إطلاقه،
.«1» وإنّما یقبح إذا ورد التعبّد علی بعض الوجوه، کما تقدّم تفصیل ذلک
مناقشۀ هذا الطریق … ص: 298
وقد وقع النظر فی کلامه قدّس سرّه من جهات:
أمّا قوله: إنّ المراد بالحکم الواقعی…
فهو حق، لکنّه خارج عن محلّ البحث.
صفحۀ 160 من 204
وأمّا قوله: والرّخصۀ فی ترکه عقلًا کما فی الجاهل القاصر أو شرعاً کمن قامت عنده أمارة معتبرة علی خلافه.
ففیه: إنّ الرخصۀ الشرعیّۀ حکم من الأحکام الخمسۀ التکلیفیّۀ، فهی بحاجۀ إلی جعل، وأین الدلیل علی جعل الرخصۀ مع وجود
الأمارة
__________________________________________________
.123 -122 / 1) فرائد الاصول 1 )
ص: 299
علی الخلاف؟
وأیضاً: إنه إذا قامت الأمارة علی الرخصۀ مع کون الحکم الواقعی هو الوجوب، فمع القول بالتضادّ بین الأحکام أنفسها، یعود
الإشکال، وأمّا علی القول بعدمها فیها، یقع التضادّ فی مرحلۀ الإرادة.
وأمّا قوله: والحاصل…
ففیه: إنّ الحکم إنما هو الاعتبار الشّرعی، غیر أن المعتَبر من الشارع إنْ کان من حیث الاقتضاء والترخیص، فهو حکم تکلیفی، وإلّا
فوضعی، والحکم التکلیفی تارةً: تکلیفی من الأوّل، واخري: هو حکم تکلیفی یستتبعه الحکم الوضعی، کما فی باب الضمان. وأیضاً:
فإنّ الحکم الشرعی قد یترتّب علیه أثر شرعی وقد لا یترتب، مثلًا: إنّ اعتبار النجاسۀ أثره شرعاً نجاسۀ الملاقی له، واعتبار صحّۀ البیع
یترتّب علیه شرعاً وجوب تسلیم العوضین.
وأمّا الأثر العقلی المترتّب علی الحکم الشرعی، فهو وجوب الإطاعۀ وحرمۀ المعصیۀ.
لکنّ الآثار العقلیّۀ تدور مدار العلم والأمارة، أمّا الآثار الشرعیۀ فهی تابعۀ للواقع، سواء کان هناك علم أو أمارة أوْ لم یکن.
وأمّا قوله: حکم الشارع بوجوب البناء علی کون مؤدّاها هو الواقع.
ففیه: إنّ أدلّۀ اعتبار الأمارات غیر العلمیّۀ- وعمدتها هو خبر الثقۀ فی الأحکام، والبیّنۀ فی الموضوعات الخارجیّۀ وکذا خبر الثقۀ بناءً
فی السیرة العقلائیۀ؟ « وجوب البناء علی کون مؤدّاها هو الواقع » علی حجیّته فیها- إنّما هی إمضاء للسّیرة العقلائیّۀ فیها، وأین
ص: 300
فإن هذه الروایۀ بعد تسلیم دلالتها علی ،«1» « فما أدّیا عنّی فعنّی یؤدّیان » : ولو کان نظر الشیخ فی هذا الکلام إلی قوله علیه السّلام
حجیّۀ خبر الثقۀ، ظاهرة فی جعل المؤدّي لا وجوب البناء علی کون مؤدّاها هو الواقع.
وأمّا قوله: نعم، هذه لیست أحکاماً فعلیّۀً بمجرّد وجودها الواقعی.
ففیه: أنّ الظاهر أن مراده من الفعلیّۀ- کما ذکر عند بیان السببیّۀ علی مسلک المعتزلۀ- هو ما یقابل الشأنیّۀ، فیرید أنّ الأحکام الواقعیۀ
تصیر فعلیّۀ بقیام الأمارة علیها، لکنّ هذا هو تصویب المعتزلی الذي ثبت بطلانه بالضرورة.
أيإن الأحکام الواقعیّۀ ما لم تقم علیها الأمارة :« وجوب الامتثال » معنیً آخر غیر ما ذکر، کأنْ یکون المراد منها « الفعلیۀ » وإنْ أراد من
لا یجب فیها الإمتثال، وقع الإشکال فی مرحلۀ الإرادة.
فظهر: أن طریق الشیخ قدّس سرّه لا یحلّ المشکلۀ.
طریق آخر للشیخ ذکره المیرزا … ص: 300
قال: وهو منقول عن جماعۀ اخري أیضاً، وهو:
اختلاف موضوعی الحکم الظاهري والواقعی؛ فإنّ موضوع الأوّل منهما هو الشیء بعنوان کونه مشکوکاً، وهذا بخلاف موضوع الحکم
.«2» الواقعی؛ فإنّ موضوعه نفس الفعل وذاته، واشتراط وحدة الموضوع فی التضادّ- کما فی التناقض- ربما یکون من الواضحات
صفحۀ 161 من 204
__________________________________________________
. 138 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضی، رقم: 4 / 1) وسائل الشیعۀ 27 )
.124 / 2) أجود التقریرات 3 )
ص: 301
الإشکال علیه … ص: 301
ثم أشکل علیه بقوله: وفیه:
أوّلًا: أنّ هذا الجواب علی تقدیر تمامیّته إنّما یختصّ بخصوص موارد الاصول من جهۀ أخذ الشکّ فی موضوعها، وأمّا الأمارات
فموضوعها نفس الفعل من غیر تقیید بالجهل بالحکم الواقعی، وکونها حجّ ۀً حال الجهل غیر أخذ الجهل فی موضوعها، وإلّا لما بقی
فرق بین الأمارة والأصل، ولا یکون لها حکومۀ علیه، کما هو ظاهر.
وثانیاً: أنّ الأحکام الواقعیّۀ وإن کانت ثابتۀً لنفس الأفعال من دون تقییدها بحال الجهل، إلّاأنّها لا تخلو فی نفس الأمر من اختصاصها
بخصوص العالمین من باب نتیجۀ التقیید أو ثبوتها للجاهلین أیضاً بنتیجۀ الإطلاق، وحیث أنّ الأوّل منهما مستلزم للتصویب المجمع
.«1» علی بطلانه، فلا محالۀ یتعیّن الثانی، ویلزم منه کون الجاهل محکوماً بحکمین متضادّین
النظر فیه … ص: 301
أقول:
إنّ الذي أفاده الشّیخ فی باب التعادل والتراجیح هو أنه: لا تعارض بین الاصول والأمارات، لأن موضوع الأصل عبارة عن الشکّ فی
الواقع، فالدلیل الإجتهادي وهو الأمارة لا یعارضه الأصل، فالشک غیر مأخوذ فی موضوع الأمارة.
فما نسبه إلیه المیرزا غیر واضح.
نعم، المستفاد من کلام الشیخ عدم حصول الإشکال من جعل الأصل فی
__________________________________________________
.124 / 1) أجود التقریرات 3 )
ص: 302
قبال الحکم الواقعی، لأن الموضوع هناك نفس الواقع لا الشک، وموضوع الأصل عبارة عن الشک، فلا یلزم الاجتماع أصلًا. أمّا فی
الأمارة، فلا یوجد فی کلام الشیخ ما یفید أخذ الشک فی موضوعها، حتی یکون الجمع بین الحکمین بتعدّد الموضوع.
فما أورده علیه المیرزا من أنّ الجهل مأخوذ فی موضوع الأصل دون الأمارة، فی غیر محلّه.
نعم، ما أشکل به علیه ثانیاً- بناءً علی صحّۀ ما نسبه إلیه- صحیح، وهو أنّ اختلاف الموضوع لا یحلّ المشکل، لأنه إنْ قلنا بإطلاق
الأحکام بالإضافۀ إلی العلم والجهل، فالأدلّۀ موجودة فی ظرف الجهل والاشکال لازم، وإن قلنا بالعدم، فالإهمال الثبوتی محال، فإمّا
التقیید بنتیجۀ التقیید بصورة عدم الجهل، وهذا یستلزم التصویب، فبقی الإطلاق بنتیجۀ الإطلاق فیعمّ صورة الجهل ویلزم الإشکال
کذلک.
طریق المحقق الخراسانی … ص: 302
صفحۀ 162 من 204
وأجاب المحقق الخراسانی عن الإشکال فی کتاب الکفایۀ وفی حاشیته علی الرّسائل، وقد اشترك الجوابان فی بعض الجهات وافترقا
فی البعض الآخر، ونحن نذکر کلا الجوابین:
فی حاشیۀ الرسائل … ص: 302
أمّا فی حاشیۀ الرسائل فقال:
التحقیق فی الجواب أنْ یقال: إنها بین ما لا یلزم وما لیس بمحال، ولنمهّد لذلک مقدمۀً:
ص: 303
فاعلم أن الحکم بعد ما لم یکن شیئاً مذکوراً، یکون له مراتب من الوجود:
أوّلها: أن یکون له شأنه من دون أن یکون بالفعل بموجود أصلًا.
ثانیها: أن یکون له وجود إنشاء من دون أن یکون له بعثاً وزجراً وترخیصاً فعلًا.
ثالثها: أن کون له ذلک مع کونه کان فعلًا من دون أن یکون منجزاً بحیث یعاقب علیه.
رابعها: أن یکون له ذلک کالسّابقۀ مع تنجّزه فعلًا، وذلک لوضوح إمکان اجتماع المقتضی لإنشائه وجعله مع وجود مانع أو فقد شرط،
کما لا یبعد أن یکون کذلک قبل بعثته واجتماع العلّۀ التامۀ له، مع وجود المانع من أن ینقدح فی نفسه البعث أو الزّجر، لعدم استعداد
الأنام لذلک، کما فی صدر الإسلام بالنّسبۀ إلی غالب الأحکام.
ولا یخفی أن التضادّ بین الأحکام إنما هو فی ما إذا صارت فعلیّۀ ووصلت إلی المرتبۀ الثالثۀ، ولا تضادّ بینها فی المرتبۀ الاولی والثانیۀ،
بمعنی أنه لا یزاحم إنشاء الإیجاب لاحقاً بإنشاء التّحریم سابقا أو فی زمان واحد بسببین، کالکتابۀ واللفظ أو الإشارة.
ومن هنا ظهر أنّ اجتماع إنشاء الإیجاب أو التحریم مرّتین بلفظین متلاحقین أو بغیرهما، لیس من اجتماع المثلین، وإنما یکون منه إذا
اجتمع فردان من المرتبۀ الثالثۀ وما بعدها، کما لا یخفی.
إذا عرفت ما مهّدنا فنقول:
أمّا الإشکال بلزوم اجتماع المثلین فیما إذا أصابت الأمارة، فإن ارید منه
ص: 304
اجتماع الإنشائین للإیجاب أو التحریم، فهو لیس بمحال، وإن ارید اجتماع البعثین، فهو غیر لازم، بل یوجب إصابتها أن یصیر إنشاء
الإیجاب أو التحریم واقعاً بعثاً وزجراً فعلیّین.
ومنه یظهر حال الإشکال بلزوم اجتماع الضدّین فیما إذا أخطات، حیث أن الاجتماع المحال غیر لازم، واللّازم لیس بمحال، إذ البعث
أو الزّجر الفعلی لیس إلّا بما أدّت إلیه لا بما أخطأت عنه من الحکم الواقعی، ولا تضادّ إلّابین البعث والزّجر الفعلیّین.
فإن قلت: لا محیص إمّا من لزوم الاجتماع المحال أو لزوم التّصویب الباطل بالإجماع، إذ لا یرتفع غائلۀ الاجتماع إلّاإذا لم یکن فی
الواقع بعث وزجر، ومعه لا حقیقۀ ولا واقعیّۀ للحکم.
قلت: التّصویب الّذي قام علی بطلانه الإجماع بل تواترت علی خلافه الرّوایات، إنما هو بمعنی أنْ لا یکون له تعالی فی الوقایع حکم
مجعول أصلًا یتتبع عنه ویشترك فیه العالم والجاهل ومن قامت الأمارة عنده علی وفاقه وعلی خلافه، بل حکمه تعالی یتبع الآراء أو
کان متعدّدا حسبما یعلم تبارك وتعالی من عدد الآراء، وکما یکون بالإجماع بل ال ّ ض رورة من المذهب فی کلّ واقعۀ حکم یشترك
فیه الامّۀ لا یختلف باختلاف الآراء، کذلک یمکن دعوي الإجماع بل ال ّ ض رورة علی عدم کونه فعلیّاً بالنّسبۀ إلی کلّ من یشترك فیه،
بمعنی أن یکون بالفعل بعثاً أو زجراً وترخیصاً، بل یختلف بحسب الأزمان والأحوال، فربّما بصیر کذلک فی حق واحد فی زمان أو
حال دون آخر، کما أنه بالبداهۀ کذلک فی المرتبۀ الرابعۀ.
صفحۀ 163 من 204
ص: 305
وبالجملۀ، المسلّم أنه بحسب المرتبتین الأولیّین لا یختلف حسب اختلاف الآراء والأزمان وغیرهما، دون المرتبتین الأخیرتین، فیختلف
حسب اختلاف الآراء وغیرها.
إن قلت: إذا کان الحکم الواقعی الذي یقول به أهل الصّواب بهذا المعنی، فإذا علم به بحکم العقل من باب الملازمۀ بین الحکم
الشرعی وحکمه بحسن شیء أو قبحه لا یجب اتباعه، ضرورة عدم لزوم اتباع الخطاب بتحریم أو إیجاب ما لم یصل إلی حدّ الزّجر
والبعث الفعلیّین، بل وکذا الحال فی العلم به من غیر هذا الباب.
قلت: مضافاً إلی أنّ العلم به مطلقاً لو خلّی ونفسه یوجب بلوغه إلی حدّ الفعلیّۀ، إنه إنما یکون ذلک لو کان طرف الملازمۀ المدّعاة
بین الحکمین هو الحکم الشّرعی بهذا المعنی، فلا ضیر فی القول بعدم لزوم الاتباع، وذلک کما لو منع مانع من اتباع العلم الناشی من
العقل، کما یظهر ممّا نقله قدّس سرّه من السیّد ال ّ ص در فی تنبیهات القطع، ولا ینافی ذلک ما أوضحنا برهانه وشیّدنا بنیانه من لزوم
اتباع القطع بالحکم الشّرعی علی نحو الفعلیّۀ التامۀ، فإنه فی القطع بالحکم الفعلی کما أشرنا إلیه فی توجیه کلام الأخباریّین، لا ما لو
کان الطرف هو الحکم الفعلی الشّرعی، بأن یدّعی أنّ استقلال العقل بحسن شیء أو قبحه فعلًا، یستلزم الحکم الشّرعیّ به کذلک.
نعم، لو لم یستقل إلّاعلی جهۀ حسن أو قبح لا حسنه أو قبحه مطلقاً، لم یستکشف به إلّاحکماً ذاتیاً اقتضائیاً یمکن أن یکون حکمه
الفعلی علی خلافه، لمزاحمۀ تلک الجهۀ بما هو أقوي منها. فتفطنّ.
وأمّا حدیث لزوم اتصاف الفعل بالمحبوبیّۀ والمبغوضیّۀ، وکونه ذا مصلحۀ
ص: 306
ومفسدة- من دون وقوع الکسر والانکسار بینهما، فیما إذا أدّت الأمارة إلی حرمۀ واجب أو وجوب حرام- فلا أصل له أصلًا، وإنما
یلزم لو کانت الأحکام مطلقاً ولو کانت ظاهریّۀ، تابعۀ للمصالح والمفاسد فی المأمور بها والمنهیّ عنها، وأمّا إذا لم یکن کذلک، بل
کانت تابعۀ للمصالح فی أنفسها والحکم فی تشریعها، سواء کانت کلّها کذلک أو خصوص الأحکام الظاهریّۀ منها، فلا، کما لا
یخفی، ولیست قضیّۀ قواعد العدلیۀ، إلّاأنّ تشریع الأحکام إنما هو لأجل الحکم والمصالح التی قضت بتشریعها، بخلاف ما علیه
الأشاعرة.
مع أنه لو کانت الأحکام مطلقاً تابعۀ للمصالح والمفاسد فی المأمور بها والمنهیّ عنها، فذلک غیر لازم أیضاً، فإن الکسر والإنکسار
إنما یکون لابدّ منه بین الجهات مطلقاً فی مقام تأثیرها الأحکام الفعلیّۀ لا فی مجرّد الإنشاء، وقد عرفت أن الحکم الواقعی فیما أخطأت
الأمارة لیس یتحقق إلّابالوجوب الإنشائی، فیکون الجهۀ الواقعیۀ التی یکون فی الواقعۀ مقتضیۀً لإنشاء حکم لها من إیجاب أو تحریم
أو غیرهما، فینشئ علی وفقها من دون أن یصیر فعلیّاً إلّابامور، منها: عدم قیام أمارة معتبرة علی خلافه المحدث فیها جهۀ اخري غالبۀ
علی تلک الجهۀ، یکون موجبۀ لحکم آخر فیها بالفعل، فالکسر والانکسار إنّما یقع بین الجهات فیما أدّت إلیه الأمارة من الحکم فی
صورة الخطاء، لکونه حکماً فعلیّاً، لا فی الحکم الواقعی الّذي أخطأت عنه الأمارة، بل إنّما هو إنشاء بمجرّد ما فی الواقعۀ بما هی من
الجهۀ الواقعیّۀ، کما هو الحال فی جمیع الأحکام الذّاتیّۀ الاقتضائیّۀ المجعولۀ للأشیاء بما هی علیها من العناوین الأوّلیّۀ، وإن کانت
أحکامها الفعلیّۀ بسبب ما طرأت علیها من العناوین الثّانویّۀ علی خلافها.
ص: 307
ومن هنا ظهر أنّ المحبوبیّۀ أو المبغوضیّۀ تابعۀ لغالب الجهات کالحکم الفعلی، فلا یلزم أن یکون الفعل الواحد محبوباً ومبغوضاً
بالفعل.
وقد ظهر ممّا ذکرنا ههنا ما به یذبّ عن إشکال التّفویت والإلقاء، لأنّهما لا یلزمان من إباحۀ الواجب أو الحرام، لإمکان أن یکون
الإیجاب أو التّحریم واقعاً عن الحکم فی التّشریع، لا عن مصلحۀ فی الواجب أو عن المفسدة فی الحرام، مع إمکان منع أن یکون تلک
صفحۀ 164 من 204
الجهۀ الموجبۀ لتشریع الوجوب أو التحریم لازم الاستیفاء أو لازم التحرّز کی یلزم ذلک.
هذا، مع أنّه لو سلّم کونها لازم الاستیفاء، لا یکون تشریع التّرخیص والإباحۀ ظاهراً للمفوّت له قبیحاً مطلقاً، بل إذا لم یکن عن مصلحۀ
وحکمۀ کائنۀ فیه وراجحۀ علی ما فیه من جهۀ القبح، ومن المعلوم أنّ الفعل لا یکون قبیحاً أو حسناً فعلًا بمجرّد أن یکون فیه جهۀ قبح
أو حسن، بل إذا لم یکن مزاحمۀ بما یساویها أو أقوي کما لا یخفی.
هذا کلّه إذا کانت الأحکام الظّاهریّۀ لمصالح فی تشریعها لا لمصالح فی سلوکها. وأمّا بناء علی ذلک، فالمصلحۀ المفوّتۀ علیه أو
المفسدة الملقی فیها، متدارکۀ بمصلحۀ سلوك الأمارة، ومعه لا قبح فی التّفویت والإلقاء کما لا یخفی، حیث أنّهما کلا تفویت ولا
إلقاء.
فتلخّص من جمیع ما ذکرنا، أنه لا یلزمُ التّصویب من الالتزام بجعل الأحکام وإنشائها للأفعال بما هی علیها من العناوین، وقد جعل
علیها أمارات تخطئ عنها تارة وتصیب اخري، ولا اجتماع المثلین فی صورة الإصابۀ، لعدم لزوم البعثین أو الزّجرین، بل یصیر الحکم
الواقعی فعلیّاً بسبب إصابتها، ولا
ص: 308
اجتماع ال ّ ض دّین فی صورة الخطاء، لعدم اجتماع البعث والزّجر الفعلیّین، بل لیس البعث أو الزّجر الفعلی إلّافی مؤدّي الأمارة، ولا
التّفویت والإلقاء القبیحین، إمّا لأجل التّدارك بمصلحۀ السّلوك، وإمّا لعدم کون المصلحۀ أم المفسدة الواقعیّۀ لازم الاستیفاء والتحرّز،
أو لأجل کون الفعل الموجب لهما مشتملًا علی ما هو أقوي وأرجح من جهات الحُسن من هذه الجهۀ المقبّحۀ لو سلّم.
ثُمّ لا یخفی إنّه قد ظهر من مطاوي ما ذکر أنّ التّضاد والتّماثل المانعین عن اجتماع الحکمین، إنّما هو فی المرتبتین الأخیرتین مطلقاً،
سواء کانا واقعیّین أو ظاهریّین أو مختلفین، فلو بلغ حکم إلیهما واقعاً فی موضوع، لم یمکن أن یحکم علیه فعلًا ولو ظاهراً بحکم آخر
مطلقاً ولو کان مثله، هذا إن لم یعلم به أصلًا فضلًا عمّا إذا علم به تفصیلًا أو إجمالًا.
فما ذکرناه سابقاً من التّفاوت بین العلمین، وأن مرتبۀ الحکم الظّاهري محفوظۀ مع الإجمالی دون التّفصیلی، إنّما هو فی المعلوم فی
غیر هاتین المرتبتین، حیث أنّه لا یکون مع التّفصیلی مرتبۀ غیر مرتبۀ الحکم الواقعیّ، فلا معنی لجعل حکم آخر إلّابعد نسخه ورفع
الید عنه بالمرّة، إذ لا یمکن أن یکون فی فعل واحد من شخص واحد علّتان لإنشاء حکمین فی عرض واحد فی زمان واحد کما لا
یخفی، بخلاف الإجمالی، حیث یعقل فیه مع بقائه علی حاله وعدم رفع الید عنه، أن یجعل فی هذه المرتبۀ ومع الجهل به تفصیلًا حکم
فعلی یعمل علی وفقه علی خلافه.
فظهر أنّ مع الفعلیّ من الواقعیّ لا مجال للظاهريّ أصلًا ولو مع الجهل به رأساً، غایۀ الأمر کون المکلّف معذوراً معه لو کان من قصور
عقلًا، ومع الشأنی
ص: 309
.«1» منه المتحقّق بمجرّد الوجود الإنشائی یکون له المجال مطلقاً، ولو کان معلوماً بالإجمال، ویترتّب علیه آثاره إذا انکشف الحال
خلاصته … ص: 309
ویتلخّص ما أفاده فی أنه لا یتحقق التضادّ بین الحکمین الإنشائیین، ولا بین حکمین أحدهما فعلی والآخر إنشائی، وإنما یتحقق بین
الفعلیین، والحکم الواقعی فی مرتبۀ الإنشاء، ومورد الأمارة فی مرتبۀ الفعلیّۀ، فبینهما اختلافٌ فی المرتبۀ، ومعه لا یتحقق التضادّ.
وأمّا عدم لزوم التصویب، فلأنّ الدلیل علی بطلان التصویب هو الإجماع، وهو دلیلٌ لبّیٌ یؤخذ منه بالمتیقّن، وهو هنا وجود الأحکام
فی مرتبۀ الإنشاء لعامّۀ المکلّفین، لا وجود الأحکام الفعلیّۀ.
صفحۀ 165 من 204
مناقشته … ص: 309
لکن یرد علیه:
أن الحکم الواقعی فیما أخطأت الأمارة لیس بمتحقّق إلّابالوجوب الإنشائی … کما هو الحال فی جمیع » أوّلًا: إنّ مقتضی ما ذکره من
الأحکام الذاتیّۀ الإقتضائیۀ المجعولۀ للأشیاء بما هی علیها من العناوین الأوّلیۀ، وإنْ کانت أحکامها الفعلیّۀ بسبب ما طرأت علیها من
هو أنْ یکون الحکم الواقعی فی المرتبۀ الاولی من مراتب الحکم وهو مرتبۀ الشأنیّۀ والاقتضاء، وأنْ … « العناوین الثانویۀ علی خلافها
یکون باقیاً فی هذه المرتبۀ، لوجود المانع عن الملاك، کما هو الحال فی مثل الوضوء الضرري، حیث أن مقتضی الدلیل الأوّلی جعل
الوضوء
__________________________________________________
.39 - 1) درر الفوائد فی حاشیۀ الفرائد: 36 )
ص: 310
لکلّ المکلّفین، لکنّه عند طروّ ال ّ ض رر علی أحدهم یتبدّلُ الحکم إلی التیمّم، ویتقدّم دلیل نفی الضرر علی الدلیل الأوّلی بالحکومۀ،
ومقتضاها تخصیص الدلیل الأوّلی، لکونها حکومۀً واقعیّۀ.
لکنّ الالتزام بکون الحکم الواقعی فی مرتبۀ الشأنیّۀ، هو القول بالتصویب المعتزلی، وهو باطل.
وثانیاً: إنّ مقتضی ما ذکره من أنّ فعلیّۀ الحکم الإنشائی تکون بتحقّق البعث إلیه أو الزجر عنه، لکنّ هذه الفعلیّۀ تختلف عن الفعلیّۀ
بالوصول، لکون الوصول شرطاً للتنجّز لا الفعلیّۀ، فما لم یصل الحکم الذي قامت علیه الأمارة لا وجداناً ولا تعبّداً فهو باقٍ فی مرتبۀ
الإنشاء، وحینئذٍ یرد علیه:
إنّ کون الحکم فی مرتبۀ الإنشاء- وهی المرتبۀ الثانیۀ- لا معنی له إلّاعدم تمامیۀ الموضوع بجمیع خصوصیّاته، کما یکون قوله تعالی:
«1 …» « وَلِلَّهِ عَلَی النَّاسِ حِجُّ الْبَیْتِ »
إنشاءً ولا مستطیع، ولا موجب لعدم تمامیّۀ الموضوع هنا إلّاالجهل، فیلزم أنْ یکون العلم جزءً لموضوع الحکم، فیختصّ الحکم
بالعالِمین، وهو باطل.
فی الکفایۀ … ص: 310
وأمّا فی الکفایۀ، فقد قال:
.«2 …» إنّ ما ادّعی لزومه إمّا غیر لازم أو غیر باطل
وتوضیحه: أنّ المجعول فی باب الأمارات لا یخلو عن وجوه:
__________________________________________________
. 1) سورة آل عمران: 97 )
. 2) کفایۀ الاصول: 277 )
ص: 311
.« الحجیّۀ » -1 أن یکون المجعول نفس
-2 أن یکون المجعول هو الحکم النفسی.
-3 أن یکون المجعول هو الحکم الطریقی.
صفحۀ 166 من 204
-4 أن یکون المجعول هو الحجیّۀ المستتبعۀ للحکم الطّریقی.
أمّا أن الشارع قد جعل فی مورد الأمارة حکماً نفسیاً ذا مصلحۀٍ، کما هو الحال فی الأحکام الشرعیۀ، فإن الإشکال بلزوم اجتماع
المثلین أو الضدّین لازم.
لکنّ المبنی باطل، لأن المجعول فی مورد الأمارة لیس هو الحکم التکلیفی، بل هو حکم وضعی، ولو کان تکلیفیّاً فهو طریقی لا
نفسی.
وأمّا أن یکون المجعول هو الحجیّۀ المستتبعۀ للحکم التکلیفی، مثل الملکیّۀ المستتبعۀ لجواز التصرّف، فلا یلزم المحذور، لأنّ الحکم
طریقی، وهو لا یضادّ ولا یماثل الحکم الواقعی النفسی.
والمراد من الحکم الطریقی هو الحکم الذي یجعله المولی بلحاظ الواقعیّۀ من أجل المحافظۀ علیها، وهکذا حکمٍ لا سنخیّۀ له مع
الحکم الواقعی حتی یماثله أو یضادّه.
ولو قیل: یجعل الحکم التکلیفی ثم ینتزع منه الحکم الوضعی، کأن یقول:
إعمل بقول زرارة، فإنه ینتزع منه حجیّۀ قوله، کما هو مسلک الشیخ فی الأحکام الوضعیۀ.
فعلی هذا المبنی أیضاً لا یلزم المحذور أصلًا، لکون مثل هذا الحکم طریقیّاً کذلک، لعدم کونه ناشئاً من المصلحۀ أو المفسدة فی
المتعلّق.
.« الحجیّۀ » هذا، والمختار عنده أنّ المجعول فی باب الأمارة هو
ص: 312
أي: کما أنّ القطع کاشف حقیقی عن الواقع، وهو حجّ ۀ للعبد علی المولی، وعذر له إذا حصلت المخالفۀ، وهو حجۀ عند العقلاء
جمیعاً، وهذا المعنی من لوازم القطع ذاتاً، کذلک الأمارة، فإن لها جمیع هذه الآثار والأحکام، غیر أنّ هذا بجعلٍ من المولی، فالأمارة
کالقطع مع فرقٍ واحدٍ هو أن الحجیّۀ هناك ذاتیّۀ وهنا اعتباریۀ.
وعلیه، فإن متعلّق الأمارة نفس هذا الأمر الوضعی، أعنی الحجیّۀ، والمصلحۀ قائمۀ بها، وحینئذٍ، یتّضح عدم لزوم محذور اجتماع المثلین
أو الضدّین، لأن المصلحۀ قائمۀ فی الأمارة بنفس هذا الأمر الوضعی، أمّا فی الحکم الواقعی، فهی قائمۀ بالمتعلّق.
فلا محذور فی مرحلۀ الملاك.
وکذا فی مرحلۀ الإرادة والکراهۀ.
وأمّا فی مرحلۀ الحکم- وهو یري التضادّ فی الأحکام- فالمفروض أنّ الحکم الواقعی تکلیفی مثل وجوب صلاة الجمعۀ، والحکم
الظاهري القائم علیها الأمارة وضعی وهو الحجیّۀ، أي: حجیّۀ خبر الثقۀ علی الواقع، فهما لیسا من سنخٍ واحد حتی یلزم التضاد أو
المماثلۀ.
وأمّا فی مرحلۀ الامتثال، فإنْ تعلّق العلم بالحکم الواقعی، أو کانت الأمارة مطابقۀً له، فالواجب امتثال الحکم الواقعی، وأمّا فی صورة
المخالفۀ، فالأمارة عذر للعبد أمام المولی، ولا یقتضی الحکم الواقعی الامتثال.
وهکذا ینحلّ المشکل علی جمیع المبانی.
ص: 313
لأن المجعول فی موردها بنظره هو الإذن والترخیص، فکان ،«1» « أصالۀ الإباحۀ » إلّا أن المحقق الخراسانی یري بقاء المشکلۀ فی
الشارع قد جعل الإباحۀ مع وجود الحکم الواقعی، فتارةً تضادُّ الإباحۀ الحکم الواقعی، واخري تماثله.
وهذا الإشکال یلزم بناءً علی جعل الحکم الظاهري فی مورد الاستصحاب.
وقد حلّ المشکل فی أصالۀ الأباحۀ، بأنّ الحکم الواقعی فی مورد أصالۀ الإباحۀ غیر فعلی.
صفحۀ 167 من 204
والظاهر أنّ مراده من عدم الفعلیّۀ هنا هو: أن الحکم الواقعی مجعول، بحیث لو علم به لتنجّز، فلا باعثیّۀ وزاجریۀ له فی ظرف الجهل
به، وحینئذٍ، لا یلزم المحذور، لأنّ المکلّف فی هذه الحالۀ ینبعث أو ینزجر من الإباحۀ الظاهریۀ المجعولۀ فعلیّته لا من الحکم الواقعی.
موارد الفرق بین الحاشیۀ والکفایۀ … ص: 313
وعلی الجملۀ، فقد ظهر الفرق بین کلامی المحقق الخراسانی فی کتابیه…
لأنه جعل الحکم الواقعی فی الحاشیۀ فی المرتبۀ الثانیۀ من مراتب الحکم التی ذهب إلیها، والحکم الظّاهري فی المرتبۀ الثالثۀ والرابعۀ،
وفی الکفایۀ، جعله فی المرتبۀ الثالثۀ، وجعل الظاهري فی الرابعۀ.
وأیضاً، کلامه فی الحاشیۀ ناظر إلی الحکم بصورةٍ عامّۀ، أمّا فی الکفایۀ، فقد استثنی أصالۀ الأباحۀ.
ثم إنه فی الحاشیۀ لا یري الحکم الواقعی فعلیّاً، وفی الکفایۀ یراه فعلیّاً،
__________________________________________________
. 1) کفایۀ الاصول: 278 )
ص: 314
….« بمعنی کونه علی صفۀٍ ونحوٍ لو علم به المکلّف لتنجّز علیه » : فیقع فی الإشکال ویحاول رفعه بقوله
هذا، وقد عرفت أنه لا یمکن المساعدة علی ما ذکره فی حاشیۀ الرسائل.
وأمّا ما ذهب إلیه فی کفایۀ الاصول، فقد تکلّم علیه جماعۀ، کما نري:
الکلام علی الکفایۀ … ص: 314
وهو یقع فی جهتین:
الاولی: فیما ذکره فی حلّ المشکل.
فإنّه یرد علیه: أنه إذا کان الحکم الواقعی بحیث لو علم به لتنجّز- أي: لیس فیه جهۀ نقص إلّاعدم العلم الوجدانی به- فلازمه أن تعود
جمیع المحاذیر بمجرّد تحقّق العلم به.
فقد اورد علیه بوجوه: ،« الحجیّۀ » والثانیۀ فی أصل مبناه، من أنّ مدلول الأدلّۀ فی الأمارات أن المجعول فی موردها هو
الأوّل:
من أنّ ظاهر عبارة الکفایۀ أنّ المجعول هو الحجیّۀ بمعنی التنجّز، فأشکل علی ظاهر العبارة- وإنْ «1» ما ذکره المحقق الإصفهانی
احتمل فیما بعد أنْ یکون مراده منها حیثیّۀ اخري یترتّب علیها التنجّز- بأنّ التنجّز عبارة عن حسن العقاب عند الموافقۀ، والتعذیر عند
المخالفۀ، وهذا المعنی متوقّف علی الحجیّۀ وبدونها یستحیل ذلک، وحینئذٍ لو کانت الحجیّۀ بجعل حسن العقاب یلزم الدور.
وقد تبعه المحقّق الخوئی فقال بعد الإشکال علی المحقق النائینی:
__________________________________________________
.124 / 1) نهایۀ الدرایۀ 3 )
ص: 315
وبما ذکرنا ظهر ما فی کلام صاحب الکفایۀ من أن المجعول فی باب الأمارات هی الحجیّۀ، بمعنی التنجیز عند المصادفۀ والتعذیر عند
المخالفۀ، إذ التنجیز والتعذیر بمعنی حسن العقاب علی مخالفۀ التکلیف مع قیام الحجّۀ علیه وعدمه مع عدمه، من الأحکام العقلیۀ غیر
صفحۀ 168 من 204
القابلۀ للتخصیص، فالتصرّف من الشارع لابدّ وأنْ یکون فی الموضوع، بأنْ یجعل شیئاً طریقاً ویعتبره علماً تعبّداً، وبعد قیام ما اعتبره
الشارع علماً علی التکلیف، یترتب علیه التنجیز والتعذیر عقلًا لا محالۀ، وکذا الحال فی الاصول المحرزة الناظرة إلی الواقع بإلغاء جهۀ
.«1 …» الشک
الجواب
ویجاب عن هذا الإشکال بأنه مع التأمّل فی عبارة الکفایۀ مندفع، فإنه إنما یرد إن کان یقول بجعل حسن العقاب والمنجزیّۀ، لکنّه
یقول بأنّ المجعول أمر اعتباري یوجب التنجّز.
هی کون الشیء بحیث یصحّ أن یحتجّ به، وهذا غیر حسن العقاب کما لا یخفی. یقول رحمه اللَّه: کون الشیء « الحجیۀ » وتوضیحه: إنّ
بحیث یصحّ أن یحتجّ به تارةً ذاتیٌّ للشیء کما فی القطع، فإنّ الحجیّۀ ذاتیّ له، واخري: لیس کذلک کما فی الأمارات والطّرق، فإنّ
ذلک مجعولٌ لما ثبت حجیّته منها، وهو سواء فی القطع أو خبر الثقۀ ونحوه یوجب حسن العقاب عند المخالفۀ. فهذا هو مراده، وهو
ظاهر کلامه إذ قال: وذلک لأن التعبّد بطریق غیر علمی إنما هو بجعل حجیّته، والحجیۀ المجعولۀ غیر مستتبعۀ لإنشاء أحکامٍ تکلیفیّۀ
بحسب ما أدّي
__________________________________________________
.105 -104 / 1) مصباح الاصول 2 )
ص: 316
إلیه الطریق، بل إنما تکون موجبۀً لتنجّز التکلیف به.
الثانی:
إن الحجیّۀ عند المحقق الخراسانی هی المنجزیّۀ، والمنجزیّۀ هی السببیّۀ لاستحقاق العقاب، لکن السببیّۀ غیر قابلۀ للجعل لکونها من
الامور التکوینیّۀ، کما ذکر هو فی الاستصحاب.
والجواب:
إنّ السببیۀ عنده ممّا لا یقبل الجعل، والحجیۀ ممّا یقبل الجعل، فهی غیر السببیّۀ.
الثالث:
إنه یرد علی کلامه بناءً علی أن الحجیّۀ قابلۀ للجعل: إن المفروض ثبوت أحکام القطع کلّها للأمارات، إلّاأنها ثابتۀ للقطع بالذات
وللأمارات بالجعل، والحال أنْ الشیء الثابت للقطع هو الکاشفیۀ عن الواقع، ومن هنا یؤاخذ العقلاء علی أساس القطع، ولیس فی
وإذ لیس للقطع ذلک فلیس فی الطرق. .« الحجیّۀ » واسطۀ اسمها « صحّۀ المؤاخذة » و « الکاشفیۀ » ارتکازهم بین
والجواب
إن هذا خلاف الإرتکاز العقلائی، فإنّهم یرون للقطع الحجیّۀ والکاشفیّۀ، وقد عرفت أن المقصود من الحجیّۀ کونه بحیث یصحّ أنْ
.«1» « العقل حجۀ » یحتجّ به، ویشهد بذلک ما یستفاد من الروایات- کما قال الوحید البهبهانی- من أن
__________________________________________________
. 1) الفوائد الحائریّۀ: 96 )
ص: 317
مناقشته … ص: 317
وبعد أنْ ظهر عدم تمامیّۀ شیء مما اورد به علیه، خاصّ ۀً الإشکال الأوّل وما اشتهر عن المحقق الخراسانی من أنه قائل بمجعولیّۀ
صفحۀ 169 من 204
استحقاق العقاب والتعذیر، فإنّ التأمّل فی کلماته فی الموارد المختلفۀ یفید عدم صحّۀ هذه النسبۀ، بل إنه یري أنّ التنجیز والتعذیر من
مقتضیات الحجیّۀ لا نفس الحجیّۀ المجعولۀ، وأنّ المستفاد من أدلّۀ الحجیّۀ والاعتبار فی باب الأمارات إلغاء احتمال الخلاف وجعل
الطریقیّۀ.
إلّا أنه یرد الإشکال علی کلامه فی الکفایۀ بالنسبۀ إلی الاصول المرخّصۀ کقاعدة الحلّ، من الجمع بین الحکمین بأنّ الحکم الواقعی
غیر فعلیّ والحکم الظاهري فعلی، إذ فیه:
إنّه لا ریب فی فعلیّۀ الحکم الواقعی مع العلم بالخلاف، فلو علم بحلیّۀ شیء هو حرام فی الواقع، فإنّ هذا العلم غیر مؤثر فی فعلیّۀ
الحکم الواقعی، لکون الموضوع محقَّقاً بجمیع قیوده ولیس للعلم دخل فی ذلک، وحکم الأمارة القائمۀ علی الخلاف حکم العلم
بالخلاف، وعلیه، فلابدّ إمّا من تقیید الحکم بعدم قیام الأمارة علی خلافه، وهذا هو التصویب، وإمّا من الالتزام بعدم الفعلیّۀ له مع
تمامیّۀ موضوعه من جمیع الجهات، وهو محال، للزوم تخلّف الحکم عن موضوعه، ومع عدم التقیید أو الالتزام المذکورین، فالإشکال
ثابت، لأنه یلزم اجتماع المثلین فی صورة الموافقۀ واجتماع الضدّین فی صورة المخالفۀ.
وأیضاً، فإنّ کلامه فی هذا المقام یشتمل علی التهافت، لأنه قال بأنّ الحکم الواقعی هو بحیث لو علم به لتنجّز، ومعنی هذا الکلام کونه
فی المرتبۀ الثالثۀ من
ص: 318
مراتب الحکم، لکنّ المفروض کون الحکم الظاهري أیضاً فی هذه المرتبۀ بضمیمۀ وصوله، فإذن، قد اجتمع الحکمان فی هذه
المرتبۀ، إلّاأن هذا الکلام ینافی قوله بأنّ الحکم الواقعی هو بحیث لو اذن بالمخالفۀ له فلا فعلیّۀ له، لأن معنی ذلک کونه فی مرتبۀ
الإنشاء وعدم وصوله إلی مرحلۀ أنه لو علم به لتنجّز.
فتدبّر.
طریق المحقق الفشارکی والیزدي … ص: 318
وسلک المحقّق السیّد الفشارکی طریقاً آخر، وتبعه تلمیذه المحقّق الحائري الیزدي، وقرّره فی الدرر حیث قال:
إنه لا إشکال فی أن الأحکام لا تتعلق ابتداء بالموضوعات الخارجیّۀ، بل إنما تتعلق بالمفاهیم المتصورة فی الذهن، لکن لا من حیث
کونها موجودة فی الذهن، بل من حیث إنها حاکیۀ عن الخارج، فالشیء ما لم یتصور فی الذهن لا یتصف بالمحبوبیۀ والمبغوضیۀ،
وهذا واضح.
ثم إن المفهوم المتصوّر تارة: یکون مطلوباً علی نحو الإطلاق، واخري:
علی نحو التقیید، وعلی الثانی، فقد یکون لعدم المقتضی فی ذلک المقید، وقد یکون لوجود المانع؛ مثلًا قد یکون عتق الرقبۀ مطلوباً
علی سبیل الإطلاق، وقد یکون الغرض فی عتق الرقبۀ المؤمنۀ خاصۀ، وقد یکون فی المطلق، إلا أن عتق الرقبۀ الکافرة مناف لغرضه
الآخر، ولکونه منافیاً لذلک الغرض لابد أن یقید العتق المطلوب بما إذا تحقق فی الرقبۀ المؤمنۀ، فتقیید المطلوب فی القسم الأخیر إنما
هو من جهۀ الکسر والانکسار، لا لتضییق دائرة المقتضی، وذلک موقوف علی تصور العنوان المطلوب أوّلًا مع العنوان الآخر المتحد
معه فی الوجود المخرج له
ص: 319
عن المطلوبیّۀ الفعلیۀ، فلو فرضنا عنوانین غیر مجتمعین فی الذهن، بحیث یکون المتعقل أحدهما لا مع الآخر، فلا یعقل تحقق الکسر
والانکسار بین جهتیهما، فاللّازم من ذلک أنه متی تصور العنوان الذي فیه جهۀ المطلوبیۀ یکون مطلوباً صرفاً من دون تقیید، لعدم
تعقّل منافیه، ومتی تصور العنوان الذي فیه جهۀ المبغوضیّۀ یکون مبغوضاً کذلک، لعدم تعقل منافیه، کما هو المفروض.
صفحۀ 170 من 204
والعنوان المتعلّق للأحکام الواقعیۀ مع العنوان المتعلق للأحکام الظاهریّۀ مما لا یجتمعان فی الوجود الذهنی أبداً، مثلًا: إذا تصور الآمر
صلاة الجمعۀ، فلا یمکن أن یتصور معها إلّاالحالات التی یمکن أن تتصف بها فی هذه الرتبۀ، مثل کونها فی المسجد أو الدار وأمثال
ذلک، وأما اتصافها بکون حکمها الواقعی مشکوکاً، فلیس مما یتصور فی هذه الرتبۀ، لأن هذا الوصف مما یعرض الموضوع بعد
تحقق الحکم، والأوصاف المتأخرة عن الحکم لا یمکن إدراجها فی موضوعه، فلو فرضنا أن صلاة الجمعۀ فی کلّ حال أو وصف
یتصور معها فی هذه الرتبۀ مطلوبۀ بلا مناف ومزاحم، فإرادة المرید تتعلّق بها فعلًا، وبعد تعلّق الإرادة بها تتصف بأوصاف اخر لم
تتصف بها قبل الحکم، مثل أن تصیر معلوم الحکم تارة ومشکوك الحکم اخري، فلو فرضنا بعد ملاحظۀ اتصاف الموضوع بکونه
مشکوك الحکم تحقق جهۀ المبغوضیۀ فیه، یصیر مبغوضاً بهذه الملاحظۀ لا محالۀ، ولا یزاحمها جهۀ المطلوبیۀ الملحوظۀ فی ذاته،
لأن الموضوع بتلک الملاحظۀ لا یکون متعقلًا فعلًا، لأن تلک الملاحظۀ ذات الموضوع مع قطع النظر عن الحکم، وهذه ملاحظته مع
الحکم.
فإن قلت: العنوان المتأخر وإن لم یکن متعقلًا فی مرتبۀ تعقل الذات، ولکن
ص: 320
الذات ملحوظۀ فی مرتبۀ تعقل العنوان المتأخر، فعند ملاحظۀ العنوان المتأخر یجتمع العنوانان فی اللّحاظ، فلا یعقل المبغوضیۀ فی
الرتبۀ الثانیۀ مع محبوبیۀ الذات.
قلت: تصوّر ما یکون موضوعاً للحکم الواقعی الأوّلی مبنی علی قطع النظر عن الحکم، لأن المفروض کون الموضوع موضوعاً للحکم،
فتصوّره یلزم أن یکون مجرّداً عن الحکم، وتصوره بعنوان کونه مشکوك الحکم لابدّ وأن یکون بلحاظ الحکم.
ولا یمکن الجمع بین لحاظ التجرّد عن الحکم ولحاظ ثبوته، وبعبارة اخري: صلاة الجمعۀ التی کانت متصورة فی مرتبۀ کونها
موضوعۀ للوجوب الواقعی، لم تکن مقسماً لمشکوك الحکم ومعلومه، والتی تتصور فی ضمن مشکوك الحکم تکون مقسماً لهما،
فتصور ما کان موضوعاً للحکم الواقعی والظاهري معاً، یتوقف علی تصور العنوان علی نحو لا ینقسم إلی قسمین، وعلی نحو ینقسم
إلیهما، وهذا مستحیل فی لحاظ واحد. فحینئذٍ نقول: متی تصوّر الآمر صلاة الجمعۀ بملاحظۀ ذاتها، تکون مطلوبۀ، ومتی تصورها
.«1» بملاحظۀ کونها مشکوك الحکم، تکون متعلقۀ لحکم آخر. فافهم وتدبّر فإنه لا یخلو من دقۀ
خلاصۀ هذا الطریق … ص: 320
ویتلخّص هذا الطّریق فی المقدّمتین والنتیجۀ:
المقدّمۀ الاولی: إنّ متعلّق الحکم هو الصّورة الذهنیّۀ لا الخارج، غیر أنها تارةً: تلحظ ذهنیّۀً، واخري: بما هی حاکیۀ عن الخارج.
__________________________________________________
.354 -350 (2 - 1) درر الفوائد ( 1 )
ص: 321
والمقدّمۀ الثانیۀ: إنّ الصّورة قد تجتمع مع انقساماتها، وقد لا تجتمع، فالرقبۀ مثلًا تقبل الاجتماع مع الإیمان ومع الکفر، فقد لا یکون
للکافرة مقتض، وقد یکون الکفر مانعاً، لکنّ الإنقسامات الطارئۀ علی الحکم لا تقبل الاجتماع معه، فلا یمکن أنْ یلحظ ما یطرأ علی
الموضوع فی مرتبۀ لحاظه، لأن قوام لحاظ الموضوع بعدم لحاظ الحکم.
ویستنتج من ذلک: إن موضوع الحکم الواقعی لا یجتمع مع مشکوك الحکم ولا یتّحد معه. هذا من جهۀ.
ومن جهۀٍ اخري: مرکب الحکم هو الصّورة الملحوظۀ خارجیّۀً.
فموضوع الحکم الواقعی هو الموضوع الذي لا یقبل الاتّحاد مع مشکوك الحکم، وموضوع الحکم الظاهري هو الحصۀ المشکوك
صفحۀ 171 من 204
فیها.
وإذا تعدّد الموضوع، فلا یعقل الاتّحاد بینهما أصلًا.
فلا یلزم أيّ محذورٍ من جعل الحکمین.
والحاصل: إن قوام لحاظ الموضوع للحکم الواقعی أنْ یُري مجرّداً عن الحکم وانقساماته وأمّا موضوع الحکم الظاهري فهو الح ّ ص ۀ
المشکوك فیها من الموضوع، ومن الواضح أن الشکّ لا یتعدّي إلی مرتبۀ موضوع الحکم الواقعی، وموضوع الحکم الواقعی لا یأتی
إلی مرتبۀ الحکم الظاهري.
مناقشته … ص: 321
أمّا فی المقدّمۀ الاولی، فصحیح ما ذکروه فی الحبّ والبغض، فإن المحبوب هو الصّورة الملحوظۀ خارجیّۀً، إذْ لیس الخارج هو
المتعلّق للحکم، حتی ولو قلنا بتعلّق الحکم بنفس الخارج کما علیه شیخ الإشراق، لأنّ الخارج
ص: 322
.« الحب » و « العلم » ظرف سقوط الحکم لا ثبوته، لکنّ المهمّ هو الفرق بین
فالمعلوم بالذات هو الصّورة والمعلوم بالعرض هو الخارج، علی عکس الحبّ، حیث أنّ المحبوب بالذات هو الخارج، وبالعرض هو
الصورة، فالمصدر للحبّ هو الخارج، أمّا العلم فهو عبارة عن الکشف، والصّورة هی الکشف لمن حصل له العلم، ویشهد بما ذکرنا
صحّۀ قولک: احبّ الحسین الخارجی وأکره یزید الخارجی، ولا یصح أن تقول: بما أن الشیء الفلانی فی الخارج فأنا عالم به.
وإذْ ظهر الفرق بین العلم والحبّ، فإن من یلحظ المقسم باللّحاظ الثانوي فی الانقسامات اللّاحقۀ للحکم من حیث غرضه، یکون حبّه
تابعاً للغرض لکونه معلولًا له، وحینئذٍ یجتمع الحکمان ویعود المحذور.
فإنْ قلتم: لا یتبعه.
قلنا: فإذن، یوجد الغرض. وهذا هو التصویب.
والحاصل: عدم تمامیّۀ المقدمۀ الاولی، للزوم الاجتماع فی مشکوك الحکم، فی مرحلۀ الإرادة والکراهۀ، ومن المعلوم أن الوجوب
والحرمۀ ظلّان للإرادة والکراهۀ فیلزم الاجتماع بین الحکمین.
هذا فی المقدّمۀ الاولی.
وأمّا المقدّمۀ الثانیۀ، وملخّص ما ذکر هو: أنّ مرکب الحکم فی الواقع مجرّد عن العلم والشکّ، وأمّا فی الظاهر فمخلوط من العلم
والشک، فلا یلزم الاجتماع بینهما لکونهما متباینین.
وفیه: إنّ هذا التباین صحیح فی اللّحاظ، أمّا فی الملحوظ فلا.
وتوضیحه: إنّ اللّحاظات متباینۀ بالضرورة، فالمولی یلحظ الخمر ویرتّب
ص: 323
الحکم الواقعی وهو الحرمۀ علیه، لکنّه لمّا یأتی بحکم الإباحۀ، فإنه یراه مشکوك الخمریّۀ، فاللحاظ مختلف والحکم کذلک، وإذْ
یوجد التباین فلا یلزم الاجتماع أصلًا.
لکنّ الأمر بالنسبۀ إلی الملحوظین لیس کذلک، فإنّ موضوع الحکم الواقعی إذا کان مجرّداً عن العلم والشک، فهو لا بشرط، أيلا
بشرط حتی بالنسبۀ إلی التجرّد، فیکون من اللّابشرط المقسمی، ومن المعلوم أن اللّابشرط المقسمی یجتمع مع القسم بحکم البرهان.
مثلًا: عندما یري الخمر ویعلم أن فی الخمر مفسدة، فهل یري المفسدة فی حال کون المائع مشکوك الخمریّۀ؟ یقول: نعم. إذن یوجد
الغرض فی مشکوك الخمر، وعلیه، فالحکم بالحرمۀ موجود فی الواقع بالنسبۀ إلی الخمر المجرّد عن کلّ قید حتی التجرّد، والخمر
صفحۀ 172 من 204
المجرد عن القید والتجرّد یجتمع مع القید، فیلزم الاجتماع، لأن اللّابشرط القسمی أو المقسمی یجتمع مع القسم.
هذا، ومع وجود الغرض الواقعی فی المشکوك، یترتّب الحکم لکونه معلولًا للغرض، ولکنّ هذا الحکم لا یأتی بالدلیل الأوّلی، فلابدّ
من الدلیل الثانوي، لأنّ الإهمال محال، والتقیید بحال العلم غیر صحیح لاشتراك الأحکام بین العالمین والجاهلین- فالحکم موجود فی
حال الشک، غیر أن مصلحۀ التسهیل تزاحم جعل الحرمۀ فی حال الشک علی مبنی المحقق الفشارکی- فیجعل الحکم الظاهري.
وبعبارة اخري: فإنّ العلم والإرادة والحبّ والبغض والوجوب والحرمۀ…
کلّ هذه مفاهیم ذات تعلّق، وکلّ مفهوم کذلک- سواء کان حقیقیاً أو اعتباریّاً- لا
ص: 324
فرقاً فی کیفیّۀ التعلّق کما عرفت. « الحبّ » و « العلم » یتحقّق إلّابمتعلّقه، إلّاأنّ بین
هذا من جهۀ.
ومن جهۀٍ، فإنّ الموضوع عندما یلحظ باللّحاظ الأوّلی، فلابدّ أن یکون مجرّداً عن الحکم، إذ الحاکم یلحظ صلاة الجمعۀ مثلًا مجرّدةً
من کلّ شیء، ثمّ یحکم بوجوبها، فالصّلاة والوجوب مثلًا لیسا فی مرتبۀ واحدة وإنْ کانا معاً زماناً، أمّا باللّحاظ الثانوي، فیراها منقسمۀً
مثلًا إلی صلاة الجمعۀ الواجبۀ والمشکوکۀ.
إلّا أنّ لحاظ ال ّ ص لاة مجرّدة عن الحکم فی اللّحاظ الأوّل، لا یعنی عدم لحاظ الغرض من الحکم، لأن الحکم فعل اختیاري یدور مدار
التصوّر والتصدیق بفائدته، وذلک یکون فی المرتبۀ السابقۀ علی الحکم، فالغرض ملحوظ فی تلک المرتبۀ، ولمّا کان من الامور
التکوینیّۀ فلا یعقل کونه مهملًا، فإمّا هو قائم بصلاة الجمعۀ حتی مع الشک فی وجوبها، فالحکم یکون مطلقاً، وإمّا هو قائم بال ّ ص لاة
حتی مع الشک فی وجوبها، فالحکم یکون مطلقاً، وإمّا هو قائم بال ّ ص لاة غیر المشکوك فی وجوبها، فالإطلاق محال، غیر أنّ إفادة
الإطلاق والتقیید هنا یکون بنتیجۀ الإطلاق ونتیجۀ التقیید.
وإذا ثبت وجوب صلاة الجمعۀ، ولکنّ الغرض یستحیل أنْ یکون مهملًا، وهو قائم بطبیعۀ صلاة الجمعۀ، فلا محالۀ یلزم اجتماع
الضدّین فی الصّلاة المشکوك فی وجوبها، فإمّا یتقیّد الغرض، وهذا تصویب، وإمّا لا یتقیّد فیلزم الاجتماع.
فالحاصل: إنه لو قیل بعدم الإطلاق فی الغرض، فالحکم کذلک غیر مطلق، فهو مقیّد بغیر مشکوك الحکم، وهذا تصویب، وإن قیل
بإطلاق الغرض ولا
ص: 325
إطلاق للحکم، لزم تخلّف المعلول عن العلّۀ وهو محال، فیبقی الشق الثالث:
وهو تبعیّۀ الحکم للغرض، فمع تبعیّته له وإطلاقه یلزم اجتماع الحرمۀ الواقعیّۀ مع الحلیّۀ الظاهریۀ، وهذا اجتماع للضدّین.
هذا کلّه أوّلًا.
وثانیاً: التباین بین لحاظ صلاة الجمعۀ المعلومۀ الوجوب ولحاظ صلاة الجمعۀ المشکوك وجوبها متحقّق، فیجتمع الحکمان، ولکنّ
النسبۀ بین الملحوظین هی العموم المطلق، فیلزم اجتماع الإرادة والکراهۀ بحسب الملحوظ فی الشیء الواحد، فیعود الإشکال.
طریق المحقق العراقی … ص: 325
وقد أجاب المحقق العراقی عن الإشکال بعد تمهید مقدماتٍ أربع نلخّصها فیما یلی:
فالمقدّمۀ الاولی هی: إن الأحکام الشرعیۀ لا تکون قائمۀً إلّابنفس العناوین المنتزعۀ عن الجهۀ التی قامت بها المصلحۀ الخارجیّۀ بما
أنها ملحوظۀ خارجیّۀً…
والمقدّمۀ الثانیۀ هی: إنه کما ینتزع من وجود واحد عنوانان عرضیّان، کذلک یمکن أن ینتزع منه عنوان طولیّان، علی وجهٍ یکون
صفحۀ 173 من 204
انتزاع أحد العنوانین فی طول الحکم المتعلّق بالعنوان الآخر. وفی هذا القسم، تارة: تکون طولیّۀ العنوانین من جهۀ طولیّۀ الوصف
المأخوذ فی أحد العنوانین، بلا طولیّۀ فی طرف الذات المعروضۀ للوصف، کما فی الخمر والخمر المشکوك حکمها. واخري:
تکون طولیّۀ العنوانین حتی من جهۀ الذات المحفوظۀ فیهما المستلزمۀ لاعتبار
ص: 326
الذات فی رتبتین، تارة: فی الرتبۀ السّابقۀ علی الوصف التی رتبۀ معروضیّتها له.
واخري: فی الرتبۀ اللّاحقۀ عن الوصف، نظیر الذات المعروضۀ للأمر والذات المعلومۀ لدعوته المنتزع عنها عنوان الإطاعۀ.
والمقدّمۀ الثالثۀ هی: إنّ لوجود المراد وتحقّقه فی الخارج مقدّمات اختیاریۀ من قبل المأمور، نظیر الستر والطهور وغیرهما بالنسبۀ إلی
الصّلاة، ومقدّمات اختیاریۀ من قبل الآمر، کخطابۀ الموجب لعلم المأمور بإرادته الباعث علی إیجاده وخطابه الآخر فی طول ذلک عند
جهل المأمور بالخطاب الأوّل، وهکذا، ولا شبهۀ فی أن الإرادة التشریعیّۀ التی یتضمّنها الخطاب المتعلّق بعنوان الذات، إنما یقتضی
حفظ وجود المتعلّق من قبل خصوص المقدّمات المحفوظۀ فی الرتبۀ السّابقۀ علی تلک الإرادة، وهی المقدّمات الإختیاریۀ المتمشّیۀ
من قبل المأمور…
والمقدمۀ الرّابعۀ هی: إنه لا شبهۀ فی اختلاف مراتب الاهتمام بحفظ المرام بالنسبۀ إلی المقدّمات المتأخّرة المتمشّیۀ من قبل الآمر
حسب اختلاف المصالح الواقعیّۀ فی الأهمیّۀ…
قال:
بعد أن عرفت ما مهّدناه من المقدّمات، یظهر لک اندفاع الشبهۀ المذکورة فی إمکان جعل الطّریق علی خلاف الواقع بتقاریها، حتی
.«1 …» علی الموضوعیّۀ فضلًا عن الطریقیّۀ فی حال الانفتاح والإنسداد
__________________________________________________
.69 - 1) نهایۀ الأفکار ق 1 ج 3 ص 60 )
ص: 327
أقول:
إنّ المهمّ من المقدّمات هو المقدّمتان الاولی والثانیۀ.
أمّا الاولی، فقد تقدّمت فی طریق السیّد الفشارکی، فلا نعید الکلام حولها.
وأمّا الثانیۀ، فهی لبیان الطولیّۀ بین موضوعی الحکمین، وتوضیحها هو:
من « العادل » و « العالم » إنه قد ینتزع من الوجود الواحد عنوانان أو أکثر، ولکنْ قد تکون العناوین المنتزعۀ فی عرضٍ واحد، کما ینتزع
الوجود الواحد وهما فی عرضٍ واحد، وقد تکون فی الطول، والطولیۀ تارة تکون فی الوصف، واخري فی الذات.
مثال الطّولیۀ فی الوصف: الخمر، والخمر المشکوك الحرمۀ، فإنهما عنوانان منتزعان من الوجود الخارجی للخمر وهما متّحدان فی
لکون الحرمۀ متفرعۀ علی الخمریّۀ ومتأخرة عنها تأخر « الحرمۀ » فی طول « مشکوك الحرمۀ » الذات ولکنهما فی الوصف طولیّان، لأن
الحکم عن الموضوع، والشک فی الشیء متأخّر طبعاً عن الشیء.
ومثال الطولیّۀ فی الذات هو: معروض الحکم ومعلول الأمر، فإنهما عنوانان طولیّان بینهما اختلاف فی الرتبۀ، فال ّ ص لاة إذا تعلّق بها
الوجوب، کانت مقدّمۀً فی الرتبۀ علی الوجوب، وهو الحکم، وهی إذا أتی بها بداعی الوجوب أصبحت معلولۀ لهذا الوجوب، فکانت
الصلاة بکونها معروضۀً للوجوب مقدّمۀً رتبۀً عند کونها معلولۀً للوجوب.
وهذه هی المقدّمۀ الثانیۀ.
وما نحن فیه من قبیل المثال الثانی، أيتوجد الطولیّۀ بین الخمر والخمر
صفحۀ 174 من 204
ص: 328
المشکوك الحرمۀ، وذلک:
تارةً: یلحظ الشکّ بنحو الحیثیّۀ التقییدیّۀ لموضوع الحکم.
واخري: بنحو الحیثیۀ ا لتعلیلیّۀ.
فإنْ کان الأوّل، فلا یلزم اختلاف الرتبۀ فی الذات، لأنّه وصف.
أمّا علی الثانی، فإنه یکون الشکّ علّۀً، وهو ظاهر الأدلّۀ فی موارد الأحکام الظاهریّۀ.
حلال، فصار الشک علۀً للحکم. « الخمر المشکوك الحرمۀ » موضوع للحرمۀ الواقعیّۀ، و « الخمر » وحینئذٍ، فإنّ
وعلیه: فإنّ الخمر الذي هو موضوع الخمر الواقعی متقدّم رتبۀً علی الحرمۀ، وهو الحکم العارض علیه، ولکنّ الخمر الذي هو موضوع
الحکم الظاهري متأخر رتبۀً عن الشک فی الحرمۀ، فتأخر موضوع الحکم الظاهري عن موضوع الحکم الواقعی.
ومع التأخر الرتبی لا یلزم أيّ اجتماع.
مناقشته … ص: 328
ویمکن المناقشۀ فی هذا الکلام إثباتاً وثبوتاً:
أمّا إثباتاً، فقد ذکر: أن الشکّ قد یکون قیداً، وقد یکون علّۀً، وقد جعله هنا علّۀ.
،«1» وفیه: إن کونه علّۀً یحتاج إلی کاشف ککونه قیداً، ولم یؤخذ فی لسان الأدلّۀ الشرعیۀ للأحکام الظاهریۀ علّۀً، لا فی حدیث الرفع
کلّ شیء » : ولا فی
__________________________________________________
. 369 ، الباب 56 من أبواب جهاد النفس، رقم: 1 / 1) وسائل الشیعۀ 15 )
ص: 329
إذ أنّ اللّسان فی جمیع هذه الأدلّۀ لسان القید «3 ،…» « ما حجب اللَّه علمه علی العباد » و «2» « الناس فی سعۀ ما لم یعلموا » «1» « مطلق
لا العلّۀ. هذا فی الاصول العملیۀ.
إذا شککت فابن علی » : وأمّا فی الطّرق، فإن الشک موردٌ لها، وفی جملۀٍ من أدلّتها لم یؤخذ الشک أصلًا. نعم، قد ورد فی الأدلّۀ
وقد وقع الکلام فی المراد من ذلک، هل هو الاحتیاط أو الاستصحاب. ،«4» « الیقین
وأمّا فی أدلّۀ الاستصحاب، فلم یؤخذ الشک فی روایۀ تامّۀ سنداً.
وعلی الجملۀ، فلا ظهور لشیء من الأدلّۀ فی علیّۀ الشک، لأنه لو کان مأخوذاً فی دلیل فهو مجملٌ.
وأمّا ثبوتاً: فإنّ النسبۀ بین کلّ عنوانین لا تخلو عن احدي النسب الأربع، ولیس بین موضوعی الحکمین نسبۀ التساوي، فهی إمّا العموم
من وجه أو المطلق أو التباین.
فإن کانت النسبۀ هی التباین، ولا مجمع بینهما کما هو ظاهر کلام المحقق العراقی، فهذا یستلزم التصویب، أي: عدم وجود الحکم
الواقعی فی مورد الحکم الظاهري.
فحلّ المشکل فی عالم الثبوت، یتوقف علی التباین، وهو یستلزم التصویب.
__________________________________________________
. 289 ، الباب 19 من أبواب القنوت، رقم: 3 / 1) وسائل الشیعۀ 6 )
.20 / 2) مستدرك الوسائل 18 )
صفحۀ 175 من 204
.327 / 3) جامع الأحادیث 1 )
212 ، الباب 8 من أبواب الخلل الواقع فی الصّلاة. / 4) وسائل الشیعۀ 8 )
ص: 330
أمّا مع کون النسبۀ هی العموم من وجه أو المطلق، فلا یلزم التصویب، لکنّ المشکلۀ لا تنحلّ.
هذا أوّلًا.
وثانیاً: إنه علی فرض تمامیّۀ ما ذکره من تعدّد الموضوعین من جهۀ اختلاف المرتبۀ، فإنّ الغرض المترتّب علی الموضوع الحامل له لا
تعدّد فیه، ومع حفظ الموضوع فی مورد الحکم الظاهري، یتحقق الإرادة والکراهۀ، فیجتمعان علی أثر اجتماع الموضوعین الحاملین
للغرض، فیعود الإشکال.
طریق المحقق النائینی … ص: 330
وجعل المیرزا الموارد التی توهّم وقوع التضادّ بین الحکمین فیها علی ثلاثۀ أنحاء:
موارد الطرق.
موارد الاصول المحرزة.
موارد الاصول غیر المحرزة.
فالکلام فی مقامات:
المقام الأول (فی الطرق والأمارات …) ص: 330
اشارة
قال ما ملخّصه بلفظه:
أمّا فی باب الطرق والأمارات، فلیس المجعول فیها حکماً تکلیفیاً حتی یتوهّم التضادّ بینه وبین الحکم الواقعی، بناءً علی ما هو الحق
عندنا من أنّ الحجیّۀ والطریقیّۀ من الأحکام الوضعیّۀ المتأصّ لۀ بالجعل وممّا تنالها ید الوضع والرفع ابتداءً،- ما عدا الجزئیّۀ والشرطیّۀ
والمانعیّۀ والسببیّۀ- لما تقدّمت الإشارة إلیه من
ص: 331
أنه لیس فیما بأیدینا من الطرق والأمارات ما لا یعتمد علیه العقلاء فی محاوراتهم وإثبات مقاصدهم، لمکان أن الطرق عندهم من
حیث الإتقان والاستحکام کالأسباب المفیدة للعلم، وإذ قد عرفت حقیقۀ المجعول فی باب الطرق والأمارات، وأن المجعول فیها نفس
الوسطیّۀ فی الإثبات، ظهر لک أنه لیس فی باب الطرق والأمارات حکم حتی ینافی الواقعی لیقع فی إشکال التضادّ أو التصویب، فلا
یکون فی البین إلّاالحکم الواقعی فقط مطلقاً، أصاب الطریق الواقع أو أخطأ.
.«1» هذا بناءً علی ما هو المختار من تأصّل الحجیّۀ والطّریقیّۀ فی الجعل
أقول:
وتوضیحه ملخّصاً:
أنّ المحذور إنما یلزم فی حال وجود التماثل أو التضاد أو التناقض جوهراً وأثراً، وإلّا فلا یلزم، لکنّ المجعول الشّرعی فی الطرق
والأمارات یختلف فی جوهره وحقیقته مع المجعول الشرعی فی الحکم الواقعی، لأنّ المجعول فیه هو الوجوب والحرمۀ، أمّا فی الطرق
صفحۀ 176 من 204
والأمارات فالمجعول الطریقیۀ والکاشفیۀ، إذنْ، لا سنخیّۀ حتی یلزم اجتماع المثلین، ولا یلزم اجتماع الضدّین، لجواز الاجتماع بین
الکاشفیۀ والوجوب أو الحرمۀ وإنْ اختلفا فی جوهرهما. وأمّا من حیث الأمر، فلا تضاد ولا تباین بینهما.
ثم إنّ المجعول فی باب الطرق والأمارات لیس تأسیسیّاً، بل هو إمضاء لما علیه العقلاء، وعملهم بخبر الواحد مثلًا لا یخلو أنْ یکون من
باب الرجاء، أو
__________________________________________________
.110 -105 / 1) فوائد الاصول 3 )
ص: 332
إفادة الخبر للعلم، أو لوجود حکم عندهم یکون منشأً لانتزاع الطریقیّۀ للخبر، أو لأنّ الخبر طریق إلی الواقع وکاشف عنه.
إن الثلاثۀ الاولی منتفیۀ یقیناً، والرابع وهو الطریقیۀ والکاشفیۀ، هو المتعیّن.
فإنهم یرتبون الأثر علی الخبر ویلغون احتمال مخالفته للواقع، وهذا المعنی هو الذي أمضاه الشارع وجعل للخبر الکاشفیّۀ کذلک،
والکاشفیۀ من الامور الوضعیّۀ القابلۀ للجعل والاعتبار کما لا یخفی.
الکلام علی الإشکالات فی هذا المقام … ص: 332
واورد علیه بوجوه:
الأول:
إنّ الطریقیّۀ غیر قابلۀ للجعل، لأنّ الأمارة إنْ کانت طریقاً فجعل الطریقیۀ لها تحصیل للحاصل، وإنْ لم تکن، فلا یمکن أنْ یصیّر ما
لیس بطریقٍ طریقاً. کما أن الطریقیۀ لیست من الامور الاعتباریّۀ، فلا تقبل الجعل والاعتبار.
بل إنه من العمل علی طبق الأمارة ینتزع لها الطریقیّۀ. کما أنّ الحجیّۀ کذلک، فهی غیر قابلۀ للجعل، بل بعد العمل وترتیب الأثر ینتزع
الحجیّۀ للخبر مثلًا.
والجواب
فدعوي بلا دلیل. هذا أوّلًا. « ما لیس بطریق لا یمکن جعله طریقاً » أمّا أن
وثانیاً: لا یقول المیرزا بجعل الطریقیّۀ، بل یقول: إن طریقیۀ الخبر- مثلًا- وکاشفیّته ناقصۀ، لاحتمال الخلاف، لکنّ العقلاء یلغون
الاحتمال، وتتمّ کاشفیّته، لأنّ الخبر عندهم کاشف غالباً عن الواقع وموصل إلیه، وهذا هو الأساس عندهم
ص: 333
لقاعدة: الشیء یُلحق بالأعمّ الأغلب.
وأمّا أن الطریقیّۀ لیست من الامور الاعتباریّۀ.
ففیه: هناك امور اعتباریۀ بالذات، وامور حقیقیّۀ لا اعتباریۀ فیها، وأمور لها الوجود الاعتباري والوجود التکوینی، والطریقیّۀ من القسم
الثالث، فالقطع طریق حقیقۀً، وخبر الثقۀ طریق اعتباراً، ومثلها: الملکیّۀ، فملکیّۀ الباري وأولیائه حقیقیّۀ وملکیّۀ سائر الناس اعتباریّۀ.
وأمّا قول بعضهم: بأنّ الحجیّۀ أیضاً غیر قابلۀ للجعل، بل إذا جعل التکلیف فإنه ینتزع منه الحجیّۀ، فهی أمر انتزاعی، ومثلها الطریقیّۀ.
ففیه: إنه إنْ لم تکن الطریقیۀ قابلۀً للجعل والاعتبار، فلا معنی لانتزاعها من جعل التکلیف، لکونها إمّا من الانتزاعیّات التکوینیّۀ أو
من حاز » الاعتباریّۀ، لکنّها لیست من التکوینیات من قبیل الفوقیّۀ للفوق، فهی من الانتزاعیات الاعتباریّۀ من قبیل الملکیّۀ المنتزعۀ من
.«1» « لا صلاة إلّابطهور » حیث تکون الحیازة سبباً للملکیّۀ، والشرطیّۀ للوضوء المنتزعۀ من « ملک
والحاصل: إنه إنْ لم تکن الطریقیّۀ من الاعتباریات، فلا یعقل کونها من الانتزاعیّات الاعتباریّۀ.
صفحۀ 177 من 204
والقول: بأنّ الحجیّۀ منتزعۀ من وجوب العمل.
فمردود: بالدلیل فی مقام الإثبات، حیث فرّع وجوب العمل علی الحجیّۀ، ولم تفرّع الحجیّۀ علی وجوب العمل، فلاحظ ما روي عن
الإمام علیه السلام:
.«2» « وأمّا الحوادث الواقعۀ فارجعوا فیها … فإنهم حجّتی علیکم وأنا حجّۀ اللَّه »
__________________________________________________
315 ، الباب 9 من أبواب أحکام الخلوة. / 1) وسائل الشیعۀ 1 )
. 137 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضی، رقم: 1 / 2) وسائل الشیعۀ 27 )
ص: 334
والثانی:
إن ظاهر الأدّلۀ فی باب الطرق والأمارات هو عدم الرّدع عن بناء العقلاء، وعدم الرّدع شیء وجعل الطریقیّۀ شیء آخر.
والجواب
صحیح أنْ لا تأسیس للشارع هنا، ولکنْ دعوي أنه مجرّد عدم الرّدع، غیر مسموعۀ، بل الواقع هو الإمضاء وهو أمر وجودي یکشف عنه
أَحَلَّ » عدم الردع، ومعنی الإمضاء جعل المماثل لاعتبار العقلاء، فللشارع جعل … وهذا ظاهر الأدلّۀ فی مقام الإثبات مثل قوله تعالی
«1» « اللَّهُ الْبَیْعَ
.«2» « لا عذر لأحدٍ من موالینا فی التشکیک فیما یرویه عنّا ثقاتنا » : وقوله علیه السّلام
والثالث …: ص: 334
لزوم نقض الغرض، لأنّ للشارع غرضاً من الحکم الواقعی، فإذا جعل الطریقیّۀ للطریق والأمارة انتقض غرضه، وقد أوردتم علی الشیخ
هذا الإشکال- لزوم نقض الغرض- فهو یتوجّه علی القول بأنّ المجعول هو الطریقیّۀ أیضاً.
والجواب
إنه غفلۀ عن کلام المیرزا، فإنه یري أن الغرض تارةً: یتعلّق بما لا یمکن رفع الید عنه لأهمیّته کالدّماء، فهنا یجعل الاحتیاط للتحفّظ
علیه، واخري: لیس کذلک، بل الغرض یحصل بالجعل والاعتبار، فإنْ وصل بطریقٍ متعارف فهو وإلّا فلا یقتضی لزوم التحفّظ علیه-
حتی فی ظرف الشک- بجعل الإحتیاط. والطرق
__________________________________________________
. 1) سورة البقرة: 275 )
. 150 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضی، رقم: 40 / 2) وسائل الشیعۀ 27 )
ص: 335
من هذا القبیل، ومن هذا القبیل أیضاً: الاصول غیر المحرزة، فإنّ الغرض المترتّب علی الواقع لیس بحیث یریده الشارع حتّی فی ظرف
الشک.
والرابع
لزوم تفویت مصلحۀ الواقع.
والجواب
إن هذا أیضاً ناشئ من عدم التأمّل، لأن المیرزا یري تقدّم مصلحۀ التسهیل من جعل الطرق علی الأغراض، وقد حلّ العراقی نفسه
صفحۀ 178 من 204
المشکل بهذا المسلک.
هذا أوّلًا.
وثانیاً: إن المیرزا قد وافق الشیخ علی القول بالمصلحۀ السّلوکیۀ، فلا یلزم تفویت المصلحۀ.
لقد ظهر عدم ورود شیء من الإشکالات، وأنّ الذي علیه بناء العقلاء فی الطرق هو عملهم بها من جهۀ کونها طریقاً وکاشفاً، والأصل
فی ذلک هو غلبۀ إصابۀ الطّرق للواقع وحصول الظنّ القويّ به بواسطتها، بحیث أنّهم یلغون احتمال الخلاف، فإذا قام خبر الثقۀ- مثلًا-
رأوا الواقع والحقیقۀ … والشارع قد أمضی هذا البناء العملی من العقلاء.
أقول:
لکنّ المهمّ هو مساعدة مقام الإثبات، فلیس فی الأدلّۀ ما یفید بصراحۀٍ أنّ الشارع جَعَل الطریقیۀ فی مورد الطّرق والأمارات، بل الذي
بخبر الثقۀ، وهو غیر جعل الطریقیۀ، کما فی الأخبار الواردة فی: « الأخذ » جاء فی النصوص وجوب
العمري » : کقوله علیه السّلام « المؤدّي » وفیها جعل .«1» « عمّن أخذ معالم دینی »
__________________________________________________
. 148 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضی، رقم: 34 / 1) وسائل الشیعۀ 27 )
ص: 336
لکن جعل المؤدي غیر جعل الطریقیۀ إلّا بالدّلالۀ الالتزامیّۀ، أي: بما أنه طریقٌ کاشف عن «1» « وابنه ثقتان فما أدّیا إلیک فعنّی یؤدّیان
الواقع یؤدّیان عن الإمام، فلولا الطریقیّۀ لم یکن قولهما مؤدّیاً عن قول الإمام، بل إنّ هذه الروایۀ واردة فی مورد السّیرة العقلائیّۀ القائمۀ
علی کاشفیّۀ قول الثقۀ عن الواقع.
وهو غیر موثّق. « إبراهیم المراغی » لکنْ فی السند .«2 …» « لا عذر لأحدٍ » : نعم، الخبر الظاهر فی الطریقیۀ هو قوله
وقد یمکن استفادة الطریقیّۀ من مفهوم آیۀ النبأ- بعد تسلیم الدلالۀ- علی تأمّل فیه.
وعلی الجملۀ، فما ذهب إلیه المیرزا فی الطرق والأمارات من أنّ المجعول فیها هو الطریقیۀ، تام ثبوتاً وإثباتاً.
المقام الثانی (فی الاصول المحرزة …) ص: 336
اشارة
وهی المعبّر عنها بعرش الاصول وفرش الأمارات، ولذا تکون محکومۀ بالأمارات وحاکمۀً علی الاصول، وقد قال المیرزا فیها ما
ملخّصه بلفظه:
وأمّا الأصول المحرزة، فالأمر فیها أشکل، وأشکل منها الاصول غیر المحرزة کأصالۀ الحلّ والبراءة، فإنّ الاصول بأسرها فاقدة
للطّریقیّۀ، لأخذ الشک فی موضوعها، والشک لیس فیه جهۀ إرائۀ وکشف عن الواقع حتّی یقال: إن المجعول فیها تتمیم الکشف،
فلابدّ وأن یکون فی مورد حکم مجعول شرعی، ویلزمه التضادّ بینه وبین الحکم الواقعی عند مخالفۀ الأصل له.
__________________________________________________
. 138 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضی، رقم: 4 / 1) وسائل الشیعۀ 27 )
. 150 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضی، رقم: 40 / 2) وسائل الشیعۀ 27 )
ص: 337
ولکنّ الخطاب فی الاصول التنزیلیّۀ هیّن، لأن المجعول فیها هو البناء العملی علی أحد طرفی الشک علی أنه هو الواقع وإلغاء الطرف
صفحۀ 179 من 204
الآخر وجعله کالعدم، ولأجل ذلک قامت مقام القطع المأخوذ فی الموضوع علی وجه الطریقیّۀ، لکونها متکفّلۀ للجهۀ الثالثۀ التی یکون
القطع واحداً لها، وهو الجري علی وفق القطع، فالمجعول فی الاصول التنزیلیّۀ لیس أمراً مغایراً للواقع، بل الجعل الشرعی إنما تعلّق
بالجري العملی علی المؤدّي علی أنه هو الواقع.
وبالجملۀ، لیس فی الاصول التنزیلیّۀ حکم مخالف لحکم الواقع، بل إذا کان المجعول فیها هو البناء العملی علی أنّ المؤدّي هو الواقع،
.«1» فلا یکون ما وراء الواقع حکم آخر حتی یناقضه ویضادّه
خلاصۀ الکلام فی المقام … ص: 337
لا تنقض الیقین بالشک بل انقضه » : إنه قد أخذ الشارع الشکّ فی موضوع الاصول المحرزة، غیر أنه ألغاه بوجهٍ من الوجوه، کقوله
بخلاف الاصول غیر المحرزة حیث الشک فیها ،« بلی قد رکعت » و « من کان علی یقین فشک فلیمض علی یقینه » و « آخر » بیقین
محفوظ.
فإنه لابدّ من العمل علی طبق الأصل ،«2» یقول المیرزا: إنّ المجعول فی الاصول المحرزة هو عبارة عن الجهۀ الثالثۀ من جهات القطع
المحرز والبناء العملی
__________________________________________________
.112 -110 / 1) فوائد الاصول 3 )
2) جهات القطع ( 1) إنه صفۀ نفسانیۀ خاصّۀ ( 2) إنه کاشف عن الواقع ( 3) إنّه یلزم العمل علی طبقه بحساب الواقع. قال بعض )
تلامذته بوجود جهۀ رابعۀ هی نفس العمل، وهی موجودة فی الاصول غیر المحرزة أیضاً. لکنّ الکاظمی لم یذکر هذه الجهۀ عن
المیرزا.
ص: 338
علی أنه هو الواقع.
وإذا کان کذلک، فلا یلزم المحذور، لأنّ الواقع علی حاله، ولیس فی مورد الأصل المحرز حکم مجعول، لیکون مماثلًا للواقع أو
مضادّاً أو مناقضاً.
إشکال المحقّق العراقی … ص: 338
.«1» فأشکل المحقق العراقی: بأنّ البناء العملی تکوینی غیر قابل للجعل التشریعی
قال الاستاذ:
هذا الإشکال وارد. فلابدّ من بیانٍ آخر، فقال:
إنّ الأصل المحرز عبارة عن الاستصحاب وقاعدة الفراغ وقاعدة التجاوز- بناءً علی التعدّد- وقاعدة الید- بناءً علی عدم کونها من
الأمارات، کما أن فی القاعدتین أیضاً قولًا بذلک- وقاعدة أصالۀ الصحّۀ.
ظاهر فی أن المجعول فی مورده عبارة عن النهی عن النقض، فالشارع اعتبر بقاء الحالۀ السّابقۀ … « لا تنقض » : أمّا الإستصحاب، فدلیله
عملًا.
ولا تنافی بین هذا الاعتبار، والحکم الواقعی، فلا محذور، فی مورد الاستصحاب.
.«2 …» وأمّا قاعدتا الفراغ والتجاوز، فلسان الدلیل اعتبار وجود الشک، فأنت عند الشک فی الرکوع بعد الفراغ أو التجاوز قد رکعت
صفحۀ 180 من 204
ولا محذور فی هذا الجعل بالنسبۀ إلی الواقع.
__________________________________________________
110 . الهامش. / 1) فوائد الاصول 3 )
.237 /8 ،317 /6 ،471 / 2) انظر: وسائل الشیعۀ 1 )
ص: 339
وأمّا قاعدة إلیه، فالمعتبر وجود المشکوك، فمع الشکّ فی أنّ هذا الشیء ملک لزید أوْ لا، جُعلت الملکیّۀ له لکونه فی بیده، قال علیه
فلا یُعتنی بالشک ویلغی. ولذا فالأقوي کون هذه القاعدة أمارة، کما أنّ «1» « ولو لم یجز هذا لم یستقم للمسلمین سوق » السلام
الاستصحاب فی الشبهات الحکمیّۀ من المسائل الاصولیّۀ، وفی الموضوعیۀ من المسائل الفقهیّۀ.
وأمّا أصالۀ الصحّۀ، فکذلک.
المقام الثالث (فی الاصول غیر المحرزة …) ص: 339
اشارة
قال ما ملخّصه بلفظه:
وأمّا الاصول غیر المحرزة کأصالۀ الاحتیاط والحلّ والبراءة، فقد عرفت أن الأمر فیها أشکل، فإن المجعول فیها لیس الهوهویّۀ والجري
العملی، بل مع حفظ الشک یحکم علی أحد طرفیه بالوضع أو الرفع، فالحرمۀ المجعولۀ فی أصالۀ الاحتیاط والحلیّۀ المجعولۀ فی
أصالۀ الحلّ، تناقض الحلیّۀ والحرمۀ الواقعیّۀ علی تقدیر تخلّف الأصل عن الواقع.
وقد تصدّي بعض الأعلام لرفع غائلۀ التضاد بین الحکمین باختلاف الرتبۀ، وأنت خبیر بفساد هذا التوهّم، فإن الحکم الظاهري وإنْ لم
یکن فی رتبۀ الحکم الواقعی، إلّاأن الحکم الواقعی یکون فی رتبۀ الحکم الظاهري، لانحفاظ الحکم الواقعی فی مرتبۀ الشک فیه ولو
بنتیجۀ الإطلاق فیجتمع الحکمان فی رتبۀ الشکّ، فتأخّر رتبۀ الحکم الظّاهري عن الحکم الواقعی لا یرفع غائلۀ التضادّ
__________________________________________________
. 292 ، الباب 25 من أبواب کیفیّۀ الحکم، رقم: 2 / 1) وسائل الشیعۀ 27 )
ص: 340
بینهما إلّابضمّ مقدّمۀ اخري إلی ذلک، وهی:
إنّ الأحکام الواقعیّۀ بوجوداتها النفس الأمریّۀ لا تصلح للدّاعویّۀ، وقاصرة عن أن تکون محرّکۀً لإرادة العبد نحو امتثالها فی صورة
الشک فی وجودها، فإنّ الحکم لا یمکن أن یتکفّل لأزمنۀ وجوده التی زمان الشک فیه، ویتعرّض لوجود نفسه فی حال الشکّ وإنْ
کان محفوظاً فی ذلک الحال عی تقدیر وجوده الواقعی، إلّا أنّ انحفاظه فی ذلک الحال غیر کونه بنفسه مبیّناً لوجوده فیه، بل لابدّ فی
ذلک من مبیّن آخر وجعل ثانوي یتکفل لبیان وجود الحکم فی أزمنۀ وجوده،- ومنها زمان الشک فیه- ویکون هذا الجعل الثانوي
من متممات الجعل الأوّلی ویتحد الجعلان فی صورة وجود الحکم الواقعی فی زمان الشک.
ولا یخفی: أنّ متمم الجعل علی أقسام: فإنّ ما دلّ علی وجوب قصد التعبّد فی العبادات یکون من متممات الجعل، وما دلّ علی
وجوب السیر للحج قبل الموسم یکون من متممات الجعل، وما دلّ علی وجوب الغسل علی المستحاضۀ قبل الفجر فی الیوم الذي
یجب صومه من متممات الجعل، وغیر ذلک من الموارد التی لابدّ فیها من متمم الجعل، وهی کثیرة فی أبواب متفرقۀ ولیست بملاك
واحد، بل لکلّ ملاك یخصّه، وإن کان یجمعها قصور الجعل الأوّلی عن أن یستوفی جمیع ما یعتبر استیفائه فی عالم التشریع؛
صفحۀ 181 من 204
ولاستقصاء الکلام فی ذلک محلّ آخر. والغرض فی المقام: بیان أنّ من أحد أقسام متمم الجعل هو الذي یتکفل لبیان وجود الحکم
فی زمان الشک فیه إذا کان الحکم الواقعی علی وجه یقتضی المتمم، وإلّا فقد یکون الحکم لا یقتضی جعل المتمم فی زمان الشک.
وتوضیح ذلک: هو أنّ للشک فی الحکم الواقعی اعتبارین:
ص: 341
أحدهما: کونه من الحالات والطوارئ اللّاحقۀ للحکم الواقعی أو موضوعه- کحالۀ العلم والظن- وهو بهذا الإعتبار لا یمکن أخذه
موضوعاً لحکم یضاد الحکم الواقعی، لانحفاظ الحکم الواقعی عنده.
ثانیهما: اعتبار کونه موجباً للحیرة فی الواقع وعدم کونه موصلًا إلیه ومنجزاً له، وهو بهذا الإعتبار یمکن أخذه موضوعاً لما یکون متمماً
للجعل ومنجزاً للواقع وموصلًا إلیه؛ کما أنّه یمکن أخذه موضوعاً لما یکون مؤمّناً عن الواقع- حسب اختلاف مراتب الملاکات النفس
الأمریۀ ومناطات الأحکام الشرعیۀ- فلو کانت مصلحۀ الواقع مهمّۀ فی نظر الشارع، کان علیه جعل المتمم- کمصلحۀ احترام المؤمن
وحفظ نفسه- فإنّه لما کان حفظ نفس المؤمن أولی بالرعایۀ وأهمّ فی نظر الشارع من مفسدة حفظ دم الکافر، اقتضی ذلک تشریع
حکم ظاهري طریقی بوجوب الإحتیاط فی موارد الشک حفظاً للحمی وتحرّزاً عن الوقوع فی مفسدة قتل المؤمن؛ وهذا الحکم
الطریقی إنّما یکون فی طول الحکم للواقع، نشأ عن أهمیۀ المصلحۀ الواقعیۀ، ولذا کان الخطاب بالإحتیاط خطاباً نفسیّاً وإن کان
المقصود منه عدم الوقوع فی مخالفۀ الواقع، إلّاأنّ هذا لا یقتضی أن یکون خطابه مقدّمیاً، لأنّ الخطاب المقدّمی هوما لا مصلحۀ فیه
أصلًا، والإحتیاط لیس کذلک، لأنّ أهمیّۀ مصلحۀ الواقع دعت إلی وجوبه؛ فالإحتیاط إنّما یکون واجباً نفسیاً للغیر لا واجباً بالغیر، ولذا
کان العقاب علی مخالفۀ التکلیف بالإحتیاط عند ترکه وإدّائه إلی مخالفۀ الحکم الواقعی؛ لا علی مخالفۀ الواقع، لقبح العقاب علیه مع
عدم العلم به، کما أوضحناه بما لا مزید علیه فی خاتمۀ الإشتغال.
ومن ذلک یظهر: أنّه لا مضادّة بین ایجاب الإحتیاط وبین الحکم الواقعی،
ص: 342
فإنّ المشتبه إن کان ممّا یجب حفظ نفسه واقعاً فوجوب الإحتیاط یتحد مع الوجوب الواقعی ویکون هو هو؛ وإن لم یکن المشتبه ممّا
یجب حفظ نفسه فلا یجب الإحتیاط، لانتفاء علّته؛ وإنّما المکلف یتخیل وجوبه لعدم علمه بحال المشتبه؛ فوجوب الإحتیاط من هذه
الجهۀ یشبه الوجوب المقدّمی، وإن کان من جهۀ اخري یغایره.
والحاصل: أنّه لمّا کان إیجاب الإحتیاط متمماً للجعل الأوّلی من وجوب حفظ نفس المؤمن، فوجوبه یدور مدار الوجوب الواقعی، ولا
یعقل بقاء المتمم (بالکسر) مع عدم وجود المتمم (بالفتح)، فإذا کان وجوب الإحتیاط یدور مدار الوجوب الواقعی، فلا یعقل أن یقع
بینهما التضاد، لاتحادهما فی مورد المصادفۀ وعدم وجوب الإحتیاط فی مورد المخالفۀ، فأین التضادّ؟
هذا کلّه إذا کانت مصلحۀ الواقع تقتضی جعل المتمم، من إیجاب الإحتیاط.
وإن لم تکن المصلحۀ الواقعیّۀ تقتضی ذلک، ولم تکن بتلک المثابۀ من الأهمیۀ بحیث یلزم للشارع رعایتها کیفما اتفق، فللشارع جعل
کلّ شیء » - أو بلسان الوضع کقوله- صلّی اللَّه علیه وآله ،« رفع ما لا یعلمون » - المؤمّن، کان بلسان الرفع، کقوله- صلّی اللَّه علیه وآله
لیس رفع التکلیف عن موطنه حتی یلزم التناقض، « رفع ما لا یعلمون » - فإنّ المراد من الرفع فی قوله- صلّی اللَّه علیه وآله « لک حلال
« رفع ما لا یعلمون » :- بل رفع التکلیف عمّا یستتبعه من التبعات وإیجاب الإحتیاط؛ فالرّخصۀ المستفادة من قوله- صلّی اللَّه علیه وآله
نظیر الرّخصۀ المستفادة من حکم العقل بقبح العقاب بلا بیان؛ فکما أنّ الرّخصۀ التی
ص: 343
تستفاد من حکم العقل بقبح العقاب بلا بیان، لا تنافی الحکم الواقعی ولا تضادّه، کذلک الرّخصۀ التی تستفاد من قوله- علیه السّلام-
والسرّ فی ذلک: هو أنّ هذه الرخصۀ تکون فی طول الحکم الواقعی ومتأخر رتبتها عنه، لأنّ الموضوع فیها هو .« رفع ما لا یعلمون »
صفحۀ 182 من 204
الشک فی الحکم من حیث کونه موجباً للحیرة فی الواقع وغیر موصل إلیه ولا منجّز له؛ فقد لوحظ فی الرخصۀ وجود الحکم الواقعی،
ومعه کیف یعقل أن تضاد الحکم الواقعی؟
تکون فی عرض المنع والحرمۀ المستفادة من إیجاب « أصالۀ الحل » و « حدیث الرفع » وبالجملۀ: الرخصۀ والحلیّۀ المستفادة من
الإحتیاط؛ وقد عرفت: أنّ إیجاب الإحتیاط یکون فی طول الواقع ومتفرّعاً علیه؛ فما یکون فی عرضه یکون فی طول الواقع أیضاً، وإلّا
.«1» یلزم أن یکون ما فی طول الشیء فی عرضه، فتأمّل
أقول:
وملخّص کلامه فی هذا المقام:
أنه لا یلزم محذور بجعل الاصول غیر المحرزة، لأن بین الحکم الواقعی والظاهري فی موردها اختلافاً فی المرتبۀ، لأن موضوع هذه
الاصول هو الشک فی الحکم الواقعی.
لکنّ اختلاف المرتبۀ غیر کاف لحلّ المشکل، لوجود الحکم الواقعی فی مرتبۀ الحکم الظاهري، فیلزم المحذور، ولذا قال:
إنّ الشک المأخوذ فی موضوع هذه الاصول یتعلّق بالواقع، فمعنی الخبر
__________________________________________________
.119 -112 / 1) فوائد الاصول 3 )
ص: 344
أي: رفع ما یوجب الحیرة فی الواقع. فهذا هو المراد من الشک. هذا من جهۀ. .« رفع ما لا یعلمون »
ومن جهۀ اخري: إن دلیل الحکم الواقعی لا یتکفّل وجود الحکم الواقعی فی ظرف الشک فیه، فتقع الحاجۀ إلی متمّم الجعل، فهو
الدلیل علی وجود الحکم فی ظرف الشک فیه.
ومن جهۀ ثالثۀ: إن مصلحۀ الحکم الواقعی تارةً: توجب أنْ یجعل متمّم الجعل فی ظرف الشک، فیجب امتثال الحکم الواقعی مع
الشکّ فیه، واخري:
توجب جعله بحیث ینتج عدم الحکم، والأول هو الاحتیاط، والثانی هو البراءة.
قال: أمّا جعل الإحتیاط فلا یستتبع محذوراً، لأنّ الاحتیاط الواجب معلول للحکم الواقعی ومجعول من أجل المحافظۀ علیه، فلیس
الاحتیاط شیئاً غیر الحکم الواقعی.
وأمّا البراءة، فکما أن قاعدة قبح العقاب بلا بیان تدلّ علی الترخیص العقلی وهو لا ینافی الحکم الواقعی، کذلک البراءة الشّرعیۀ، لأنّ
الترخیص متقوّم بالحکم الواقعی لأن موضوعه الشک فی الحکم المذکور، والمتقوّم بالحکم الواقعی لا یعقل أن یکون منافیاً له.
إشکال السیّد الخوئی … ص: 344
وقد أشکل علیه تلمیذه المحقق بقوله:
وأمّا ما ذکره فی الاصول غیر المحرزة، فغیر مفید فی دفع الإشکال، لأن اختلاف المرتبۀ لا یرفع التضاد بین الحکمین، ولذا یستحیل أن
یحکم المولی بوجوب شیء، ثم یرخص فی ترکه إذا علم بوجوبه، مع أن الترخیص متأخر عن
ص: 345
الوجوب بمرتبتین. والسرّ فیه أن المضادّة إنما هی فی فعلیّۀ حکمین فی زمان واحد، سواء کانا من حیث الجعل فی مرتبۀ واحدة أو فی
مرتبتین.
وأما ما ذکره فی الاحتیاط من أن وجوبه طریقی، وإنما هو للتحفظ علی الملاك الواقعی، فهو وإن کان صحیحاً، إلا أن تخصیصه
صفحۀ 183 من 204
وجوب الإحتیاط بصورة مصادفۀ الواقع غیر تام، لأن وجوب الإحتیاط لیس تابعاً للملاك الشخصی، کی یکون مختصاً بصورة مصادفۀ
الواقع، بل تابع للملاك النوعی، بمعنی أنه حیث لا یتمیّز فی الشبهات مورد وجود الملاك الواقعی عن مورد عدم وجوده، فأوجب
الشارع الاحتیاط کلیّۀ تحفظاً علی الملاك فی مورد وجوده، إذ مع ترك الإحتیاط قد یفوت الملاك، ولذا کان لسان أدلۀ الإحتیاط
فإذا … إذا کان ذلک فأرجئه حتی تلقی إمامک، فإن الوقوف عند الشبهات » :… مطلقاً غیر مقید بموافقۀ الواقع، کقوله علیه السلام
.«1» « خیر من الاقتحام فی الهلکات
هذا، مضافاً إلی أن تقیید الإحتیاط بصورة مصادفۀ الواقع غیر معقول، لعدم قابلیته للوصول إلی المکلف، لعدم إحرازه الواقع علی
الفرض، وإلا کان الإحتیاط منتفیاً بانتفاء موضوعه، وهو عدم وصول الواقع إلی المکلّف، فیکون إیجاب الإحتیاط لغواً محضاً لا یترتب
علیه أثر، إذ مع عدم إحراز مصادفته للواقع لا یحرز وجوب الإحتیاط، لاحتمال کونه غیر مطابق للواقع، فتجري البراءة عنه، ومع إحراز
.«2» الواقع ینتفی الاحتیاط بانتفاء موضوعه، وهو عدم إحراز الواقع
__________________________________________________
. 207 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضی، رقم: 1 / 1) وسائل الشیعۀ 27 )
.107 / 2) مصباح الاصول 2 )
ص: 346
أقول:
والظاهر ورود الإشکال فی الاحتیاط.
وأمّا فی البراءة، فما ذکره مخدوش، لأنّ المیرزا قد ذکر تقوّم الحکم الظاهري بالحکم الواقعی، فلا یلزم المحذور. نعم، المشکلۀ
موجودة بنتیجۀ الإطلاق.
لکن الإشکال العمدة فی البراءة هو فی قوله:
بأن وزان البراءة الشرعیّۀ وزان العقلیّۀ، لأنه لا حکم فی البراءة العقلیّۀ، إذ العقل لیس حاکماً، لکنْ فی البراءة الشرعیّۀ حکم وهو
الترخیص، فیقع المحذور.
فهو یجعل الحلیّۀ ،« کلّ شیء لک حلال حتی تعرف الحرام بعینه » : ولو سلّم کلامه فی أنّ البراءة ترفع الإحتیاط، فإن المشکل یبقی فی
من طرفٍ، ومن طرفٍ آخر یجعل الحرمۀ، فکیف الجمع؟
فظهر أنّ طریق المیرزا لا یحلّ المشکلۀ فی الاصول غیر المحرزة.
طریق المحقق الإصفهانی … ص: 346
ولمّا کانت الحجیّۀ المجعولۀ بالاعتبار أمراً ،« الحجیّۀ » وذهب المحقق الإصفهانی، أمّا فی الطرق والإمارات، فإلی أنّ المجعول فیها هو
وضعیّاً، فلیس بینها وبین الحکم الواقعی تماثل ولا تضادٌّ. وقد قال بتوضیح مختاره هذا:
إنّ الحجیۀ مفهوماً لیست إلا کون الشیء بحیث یصح الاحتجاج به.
وهذه الحیثیۀ: تارة تکون ذاتیّۀ غیر جعلیۀ کما فی القطع، فإنه فی نفسه بحیث یصح به الاحتجاج للمولی علی عبده.
وأخري: تکون جعلیۀ إما انتزاعیّۀ کحجّیۀ الظاهر عند العرف وحجّیۀ خبر
ص: 347
الثقۀ عند العقلاء، فإنه بملاحظۀ بنائهم العملی علی اتباع الظاهر وخبر الثقۀ والاحتجاج بهما یصح انتزاع هذه الحیثیّۀ من الظاهر والخبر.
فإنه جعل الحجیۀ بالاعتبار. «1» « فإنّهم حجّتی علیکم وأنا حجۀ اللَّه » : وإمّا اعتباریّۀ، کقوله علیه السلام
صفحۀ 184 من 204
والوجه فی تقدیم هذا الوجه علی سائر الوجوه- مع موافقته لمفهوم الحجّیۀ، فلا داعی إلی اعتبار أمر آخر غیر هذا المفهوم- هو أن
المولی إذا کانت له أغراض واقعیّۀ وعلی طبقها أحکام مولویۀ، وکان إیکال الأمر إلی علوم العبید موجباً لفوات أغراضه الواقعیّۀ، إما
لقلّۀ علومهم، أو لکثرة خطئهم، وکان إیجاب الإحتیاط تصعیباً للأمر منافیاً للحکمۀ، وکان خبر الثقۀ غالب المطابقۀ، فلا محالۀ یعتبر
الخبر بحیث یصح الاحتجاج به.
وکلّ تکلیف قام علیه ما یصح الاحتجاج به اعتباراً من المولی، کان مخالفته خروجاً عن زيّ الرقیّۀ ورسم العبودیّۀ، وهو ظلم علی
المولی، والظلم مما یذمّ علیه فاعله.
ولا حاجۀ بعد تلک المقدمات إلی اعتبار الخبر وصولًا وإحرازاً: إذ لو لم تکن تلک المقدمات لم یجد اعتبار الوصول، إذ کل اعتبار
لابد من أن ینتهی إلی حقیقۀ تقتضی ذلک الاعتبار.
وإذا کانت هذه المقدّمات، کفی اعتبار الخبر بحیث یحتج به من دون لزوم توسط اعتبار آخر.
__________________________________________________
. 137 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضی، رقم: 1 / 1) وسائل الشیعۀ 27 )
ص: 348
وکفی بهذا شاهداً ملاحظۀ حجیّۀ الظاهر وخبر الثقۀ عند العرف والعقلاء، فإن تلک المقدّمات تبعثهم علی العمل بالظاهر والخبر، لا
أنها تقتضی اعتبار الوصول والإحراز منهم جزافاً للعمل بالظاهر والخبر. هذا کلّه فی الحجیّۀ المجعولۀ بالاستقلال.
وأما المجعولۀ بالتبع، فتارة: یراد بها الوساطۀ فی إثبات الواقع عنواناً، وأخري: الوساطۀ فی إثبات الواقع بعنوان آخر، وثالثۀ: الوساطۀ فی
تنجز الواقع:
فنقول: أمّا الوساطۀ فی إثبات الواقع عنواناً، فهی بجعل الحکم علی طبق المؤدي بعنوان أنه الواقع کما هو مقتضی ظاهر التصدیق وأنه
الواقع، فهو حکم مماثل للواقع الذي قام علیه الخبر، لکنه لا بما هو هو بل بما هو الواقع، فوصوله بالذات وصول الواقع عنواناً وعرضاً.
وأما الوساطۀ فی إثبات الواقع بعنوان آخر، فهی بجعل الحکم المماثل بداعی إیصال الواقع بعنوان آخر، بمعنی أن وجوب صلاة
الجمعۀ وإن لم یصل بعنوانه، لکنه وصل بعنوان کونه مما قام علیه الخبر، نظیر ما إذا قیل: أکرم زیداً وحیث لم یعرفه یقال له أیضاً
بداعی جعل الداعی: أکرم جارك، فالغرض من جعل الداعی إیصال الجعل الأول بعنوان آخر.
وأما الوساطۀ فی تنجز الواقع، فهی کما إذا قال صدق العادل، بداعی تنجیز الواقع بالخبر.
فالأوّلان إنشاء بداعی جعل الداعی، والثالث إنشاء بداعی تنجیز الواقع، وسیأتی إن شاء اللَّه تعالی الإشکال فی الثالث.
وأما الأوّلان، فربما یشکل بأن الحجیۀ إذا کانت منتزعۀ من جعل الحکم
ص: 349
التکلیفی نظیر الجزئیۀ والشرطیۀ المنتزعۀ من تعلق الحکم بالمرکب والمقید، لزم دوران الحجیۀ مدار بقاء الحکم التکلیفی کما هو شأن
الأمر الانتزاعی ومنشأ انتزاعه، مع أن الحکم التکلیفی یسقط بالعصیان والخبر لا یسقط عن الحجیۀ، کما أن الجزئیۀ بمعنی کون الشیء
بعض المطلوب یدور مدار بقاء المطلوبیّۀ، فإذا سقط الطلب لیس ذات الجزء موصوفاً بالجزئیۀ للمطلوب فعلًا.
ویندفع بأنه:
إن لوحظ الدلیل المتکفل للحکم الکلی المرتب علی الموضوع الکلی فهو باق ما لم ینسخ، کما هو شأن القضایا الحقیقیۀ، فالحجیۀ
المنتزعۀ من هذا الجعل الکلی الذي لا یزول بالعصیان کذلک.
وإن لوحظ الحکم الفعلی بفعلیۀ موضوعه، فهو وإن کان یسقط بالعصیان، إلّا أن الإشکال لا یختص بالحجیۀ المنتزعۀ من الحکم
التکلیفی، بل الحجیّۀ الفعلیۀ بمعنی الوصول الاعتباري کذلک، إذ مع سقوط الحکم علی أيحال، لا معنی لفعلیۀ اعتبار وصول الواقع،
صفحۀ 185 من 204
کما لا معنی لاعتبار منجزیۀ الخبر فعلًا.
نعم، ما لا یسقط أصلًا، سواء لوحظ الحکم الکلی أو الفعلی هی الحجیۀ بمعنی کونه مما یحتج به المولی، فإن مورد الاحتجاج فعلًا هو
فی وعاه العصیان، فالخبر، من أول قیامه علی الحکم مما یصح الاحتجاج به عند المخالفۀ ولا یسقط عن هذا الشأن، وهذا من الشواهد
علی أن الحجیۀ بهذا المعنی الصالح للبقاء، فتدبر جیداً.
إذا عرفت ما ذکرناه فی معنی الحجیۀ الاعتباریۀ والانتزاعیۀ، فاعلم:
أن الحجیۀ المجعولۀ بالاعتبار حیث إنها أمر وضعی، لیس بینه وبین الحکم
ص: 350
الواقعی تماثل ولا تضاد.
وأما الحجیۀ المجعولۀ بجعل الإنشاء الطلبی، فالإنشاء بداعی تنجیز الواقع علی فرض معقولیته أیضاً، لیس مماثلًا ولا مضاداً للحکم
الحقیقی، أيالبعث والزجر بالحمل الشائع وإن اشترکا فی مفهوم البعث النسبی الإنشائی، إلا أن أحدهما بعث بالحمل الشائع والآخر
تنجیز بالحمل الشائع.
وأما الإنشاء بداعی جعل الداعی، سواء کان علی طبق المؤدي بعنوان أنه الواقع أو علی طبق المؤدي بداعی إیصال الواقع بعنوان آخر،
فنفی المماثلۀ والمضادّة مبنی علی ما قدمناه فی الحاشیۀ المتقدمۀ، من عدم اتصاف الحکم الواقعی بکونه بعثاً وزجراً بالحمل الشائع إلا
بعد وصوله، ولا تماثل ولا تضاد إلا بین البعثین بالحمل الشائع أو بین بعث وزجر بالحمل الشائع، لا بینهما بالوجود الإنشائی، وسیأتی
.«1» إن شاء اللَّه تعالی بقیۀ الکلام
وأمّا فی الاصول غیر المحرزة، فقد ذکر ما نصّه:
الإباحۀ إنما تنافی الإرادة والکراهۀ النفسانیّتین بالعرض لا بالذات، إذ لا مقابلۀ بینهما، بل الإرادة حیث إنها ملزومۀ للبعث، وهو مناف
بالذات للترخیص فینافی ملزومه بالعرض.
وکذا تنافیها من حیث المبدأ، فإن الإرادة منبعثۀ عن کمال الملائمۀ للطبع، والکراهۀ عن کمال المنافرة للطبع، والإباحۀ تنبعث غالباً عن
عدم کون المباح ملائماً ومنافراً، وبین الملائمۀ وعدمها والمنافرة وعدمها منافاة بالذات، وبین لازمهما بالعرض.
__________________________________________________
.129 -123 / 1) نهایۀ الدرایۀ 3 )
ص: 351
نعم، حیث إن الإباحۀ هنا منبعثۀ عن مصلحۀ موجبۀ لها لا عن عدم المصلحۀ والمفسدة فی الفعل، وإلّا لم یعقل مزاحمۀ بین اللّا اقتضاء
والمقتضی، فلذا ینحصر وجه المنافاة فی الجهۀ الأولی، فلو أمکن إنفکاك الإرادة عن البعث الفعلی لم یکن الإباحۀ هنا منافیۀ للإرادة
أو الکراهۀ الواقعیّۀ بوجه لا ذاتاً ولا عرضاً، بمعنی أنه لو لم یکن هناك تکلیف فعلی من جمیع الجهات والمفروض أنه المنافی
.«1» للإباحۀ، فلا منافاة للإباحۀ مع الإرادة حتی لا تنقدح بسببها، فتدبّر جیّداً
مناقشته … ص: 351
ویرد الإشکال علیه فیما ذکره من کون حجیّۀ الظواهر وخبر الثقۀ منتزعۀ من بناء العقلاء، وذلک:
أوّلًا: إنه یستحیل أنْ یکون نفس بناء العقلاء علّۀً لحجیّۀ الظاهر وخبر الثقۀ، بل إنّ العقلاء یستکشفون مراد المتکلّم من ظاهر کلامه،
ویرون ما أخبر به المخبر محقّقاً فی الخارج فیعتمدون علیه ویرتبُون الأثر، لا أنّ الحجیّۀ تنتزع من بنائهم العملی علی اتّباع الظاهر وخبر
الثقۀ، إذ لیس فی بناء العقلاء تعبّد کما هو الحال بین الموالی والعبید.
صفحۀ 186 من 204
وثانیاً: إن بناء العقلاء علی العمل، إمّا هو الإسناد أو الإستناد، ولا یعقل فیه الإهمال، فإمّا هو بشرط لا عن الحجیّۀ أو لا بشرط بالنسبۀ
إلیها أو بشرطها، أمّا الإسناد والإستناد بشرط عدم الحجیّۀ، فباطل بال ّ ض رورة، وکذا اللّابشرط، فلا محالۀ ینحصران بصورة الحجیّۀ،
وعلیه، فلابدّ وأنْ تکون الحجیّۀ متقدّمۀ علی
__________________________________________________
.148 / 1) نهایۀ الدرایۀ 3 )
ص: 352
العمل تقدّم الشرط علی المشروط، فلو کانت الحجیّۀ منتزعۀً من بناء العقلاء لزم أنْ تکون متأخرةً عن العمل تأخّر الأمر المنتزع عن
منشأ انتزاعه، فیلزم اجتماع التقدّم والتأخّر فی الشیء الواحد، وهو محال.
وأمّا ما ذکره فی نفی الطریقیّۀ والوسطیّۀ فی الإثبات واعتبار الوصول فی الأمارات، ففیه:
أوّلًا: إنا نختار الشقّ الثانی، وقد أشرنا إلی أنه لیس للشارع تأسیسٌ فی جعل الطریقیّۀ للظّاهر والخبر، وإنّما فعله الإمضاء لما هو عند
العقلاء، فلیس له أيّ اعتبارٍ فی ناحیۀ الکبري، ولذا یقع السؤال من الإمام علیه السلام عن الصغري فی:
ونحو ذلک، والعقلاء إنما یرتّبون الأثر فی حال وصول «1» «؟ أفیونس بن عبد الرحمن ثقۀ آخذ عنه ما أحتاج إلیه من معالم دینی »
الواقع، سواء کان الوصول عقلیّاً أو عقلائیّاً، وإذا کان الشارع ممضیاً طریقۀ العقلاء، فإنّ من المعقول حینئذٍ جعل الطریقیّۀ.
وثانیاً: إنه قال فی الصفحۀ السّابقۀ:
لیس ترتّب الأثر علی الوصول من باب ترتّب الحکم الکلّی علی الموضوع الکلّی بنحو القضایا الحقیقیّۀ، حتی یکون القطع من »
أفرادها المحقّقۀ الوجود والظن مثلًا من أفرادها المقدّرة الوجود التی یحقّقها الشارع باعتباره وصولًا، بل هذا الأثر إنما استفید من بناء
.« العقلاء عملًا علی المؤاخذة علی التکلیف الواصل قطعاً أو الواصل بخبر الثقۀ
فمن هذا الکلام یظهر: أن ما ذکرنا من أنّ اعتبار خبر الثقۀ من المرتکزات
__________________________________________________
. 141 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضی، رقم: 33 / 1) وسائل الشیعۀ 27 )
ص: 353
العقلائیۀ موجود فی ذهنه هو أیضاً، وحینئذٍ نقول: لا ریب أنّ الوصول بخبر الثقۀ عقلائی ولیس بعقلی، وذلک لا یکون إلّاباعتبار
العقلاء خبره وصولًا للواقع وکاشفاً عنه بإلغائهم احتمال الخلاف فیه.
فما ذکره هنا منقوضٌ بما ذکره من قبل.
والحق فی الطرق والأمارات هو: مجعولیّۀ طریقیّتها من قبل الشارع، بمعنی إمضائه للسیرة العقلائیۀ فیها، والحجیّۀ متفرّعۀ علی الطریقیّۀ.
وأمّا ما ذهب إلیه فی الاصول غیر المحرزة، فهو أمتن الوجوه المذکورة فیها، وتوضیحه بتقریب منّا هو:
إن الإباحۀ تارةً: تنشأ من عدم الملائمۀ مع طبع المولی، واخري: من مصلحۀ فی نفسها، وکلاهما ممکن ثبوتاً وإثباتاً، والفرق أنّ الاولی
تنشأ من أمر عدمی، والثانیۀ من أمر وجودي. فهذه مقدّمۀ.
والمقدّمۀ الثانیۀ هی: إنّ الأحکام تلحظ فی أنفسها ومبادیها ونتائجها، فهو ینشأ من الإرادة والکراهۀ ویترتب علیه الإطاعۀ والعصیان،
وبعبارة اخري: إنّ الحکم ینشأ من إرادة المولی وکراهیۀ المولی، ثمّ له الفاعلیۀ فی إرادة العبد وکراهیّته.
والحکم اعتبار، والاعتبار لیس بموضوع للتناقض والتماثل، ولذا یمکن البعث الإعتباري والزجر الاعتباري فی الآن الواحد للشیء
الواحد، وإنما المحذور یکون فی المنشأ وفی النتیجۀ، أمّا فی الأحکام أنفسها، فلا یوجد التضادّ أصلًا.
ثم إنّ الإرادة والکراهۀ أمران تکوینیان، والإباحۀ أمر اعتباري، والاعتباري
صفحۀ 187 من 204
ص: 354
لا ینافی التکوینی، وعلیه، فإن المحذور لیس إلّافی الأثر والنتیجۀ، لأن الإرادة لازمها البعث ولازم الکراهۀ هو الزجر، وهما لا یجتمعان
مع الإباحۀ والترخیص؟
فالتنافی- إن کان- هو فی مرحلۀ تأثیر الإرادة والکراهۀ، لکن المفروض عدم وصول الزجر الواقعی إلی ظرف الشک، فلا مؤثّریۀ له،
ویبقی المؤثّر هو الحکم الظاهري.
وعلی الجملۀ، فإن الاباحۀ فی الحکم الظاهري ناشئۀ من المصلحۀ فی نفس الإباحۀ والتنافی إنما یحصل لو کان للحکم الواقعی مؤثریّۀ
فی مرحلۀ الشک، والمفروض عدمها، فتؤثّر الإباحۀ والترخیص والبراءة.
لکنْ لابدّ من التأمّل فیما ذکر، لأنّ المصلحۀ التی نشأت منها الإباحۀ إمّا هی مصلحۀ التسهیل، وإمّا هی المصلحۀ فی نفس الإباحۀ،
بحیث یرخّص العبد حتی فی محتمل الوجوب والحرمۀ. وعلی کلّ حالٍ، فإن العبد یرخّص فی الفعل الذي هو حرام فی متن الواقع
ویکون ارتکاب الخمر الواقعی- المشکوك الخمریّۀ- محبوباً، وکیف یجتمع الحبّ والبغض فی الشیء الواحد؟
إن هذا الطریق یحلّ المشکلۀ فی الاصول غیر المحرزة.
وتبقی مشکلۀ اجتماع الإرادة والکراهۀ، وقد قال فی حلّها:
تحقیق الجواب أن حقیقۀ الحکم خصوصاً فی الأحکام الشرعیّۀ عبارة عن البعث والزجر أعنی الانشاء بداعی جعل الداعی من دون
لزوم ارادة أو کراهۀ بالنسبۀ إلی فعل المکلف فی المبدأ الأعلی، ولا فی سائر المبادي العالیۀ، بل فی مطلق من کان بعثه أو زجره لأجل
صلاح الغیر.
بداهۀ أن الشوق النفسانی لا یکون إلا لأجل فائدة عائدة إلی جوهر ذات
ص: 355
الفاعل أو إلی قوة من قواه، وإلا فحصول الشوق الأکید بالإضافۀ إلی الفعل علی حد المعلول بلا علّۀ، وإنما یتصور الشوق الأکید إلی
فعل الغیر إذا کان ذا فائدة عائدة إلی المرید إیاه.
وحیث إن أفعال المکلفین لا یعود صلاحها وفسادها إلا إلیهم، فلذا لا معنی لانقداح الإرادة فی النفس النبویّۀ والولویۀ فضلًا عن المبدأ
الأعلی.
مع اختصاصه تعالی بعدم الإرادة التشریعیۀ من جهۀ أخري تعرّضنا لها فی مبحث الطلب والإرادة مستوفی، ولعلّنا نشیر إلیها عما قریب
إن شاء اللَّه تعالی.
وأما الإرادة المتعلّقۀ بنفس البعث والزجر، فهی إرادة تکوینیۀ لتعلّقها بفعل المرید لا بفعل المراد منه، ولا ترد علی ما ورد علیه البعث،
کما لا یخفی.
وعلیه، فلیس بالنسبۀ إلی فعل المکلف إرادة أصلًا فضلًا عن الإرادتین، بل لو فرضنا انبعاث الإرادة التشریعیۀ عن فائدة عائدة إلی المراد
منه، لم یلزم ثبوت إرادتین تشریعیتین، لما مرّ مراراً من أن الشوق ما لم یصل إلی حدّ ینبعث عنه العضلات أو ینبعث منه البعث
الحقیقی لا یکاد یکون مصداقاً للإرادة التکوینیۀ أو التشریعیّۀ، وسیأتی إن شاء اللَّه تعالی عدم مصداقیۀ الإنشاء الواقعی للبعث
.«1» الحقیقی، فکما لا بعث حقیقی واقعاً لا إرادة تشریعیۀ واقعاً
لکنْ یرد علیه:
وَاللَّهُ یُحِبُّ » أوّلًا: إنه لا یوجد برهانٌ علی ضرورة وجود المنفعۀ والمضرّة لشخص المرید والکاره فی جمیع موارد الإرادة والکراهۀ، بل
«2» « الْمُحْسِنینَ
،
صفحۀ 188 من 204
__________________________________________________
.122 -121 / 1) نهایۀ الدرایۀ 3 )
. 2) سورة آل عمران: 134 )
ص: 356
«1» « یُحِبُّ الْمُتَّقینَ » و
«2» « وَاللَّهُ لایُحِبُّ الظَّالِمینَ » ،
«3» « یُحِبُّ الصَّابِرینَ » و
علی عدم «4 …» « إن اللَّه سبحانه وتعالی خلق الخلق حین خَلقَهم غنیّاً عن طاعتهم » : فی حین یدلّ مثل قول أمیر المؤمنین علیه السّلام
عود نفعٍ إلیه أو دفع ضرر عنه.
وثانیاً: إنه وإنْ لم یعُد نفع إلی النفس النبویّۀ والولویّۀ من طاعۀ العباد أو ضررٌ من معصیتهم، إلّاأنه لا ریب فی ملائمۀ الطاعۀ ومنافرة
المعصیۀ لتلک النفوس المقدّسۀ الفانیۀ فی حبّ اللَّه وطاعته، وعلی هذا، فلا ریب فی انقداح الحبّ والبغض والإرادة والکراهۀ فیها،
فیعود الإشکال.
طریق السیّد الخوئی … ص: 356
«5» - وأمّا ما ذکره المحقق الخوئی- من الطریق المؤلّف من طریقی صاحب الکفایۀ والمحقق الإصفهانی کما قال السیّد الاستاذ
فخلاصته:
إنّ الأحکام الشرعیّۀ لا مضادّة بینها فی أنفسها، إذ الحکم لیس إلّاالاعتبار، إنّما التنافی بینها فی موردین: المبدأ والمنتهی، أيمرحلۀ
الملاکات ومرحلۀ الإمتثال، وهو منتف فی کلتا المرحلتین.
أمّا الاولی، فلأن المصلحۀ فی الحکم الظاهري، إنما تکون فی نفس جعل الحکم لا فی متعلّقه کما فی الحکم الواقعی، فلا یلزم من
مخالفتهما اجتماع المصلحۀ والمفسدة أو وجود المصلحۀ وعدمه أو وجود المفسدة وعدمه فی
__________________________________________________
. 1) سورة آل عمران: 76 )
. 2) سورة آل عمران: 140 )
. 3) سورة آل عمران: 146 )
.160 / 4) نهج البلاغۀ 2 )
.159 / 5) منتقی الاصول 4 )
ص: 357
شیء واحد، إذ الأحکام الواقعیّۀ ناشئۀ من المصالح والمفاسد فی متعلّقاتها، والأحکام الظاهریّۀ لیست تابعۀً لما فی متعلّقاتها من
المصالح، بل تابعۀ للمصالح فی أنفسها.
وأمّا فی الثانیۀ، فلأن الحکم الظاهري موضوعه الشکّ فی الحکم الواقعی وعدم تنجّزه لعدم وصوله إلی المکلّف، فهو ثابت فی حال
الجهل بالحکم الواقعی، ولیس لهذا الحکم داعویّۀ فی هذا الحال. وبعبارة اخري: حکم العقل بلزوم الامتثال إنما هو بعد وصول
الحکم إلی المکلّف، والواصل فی حال الجهل بالحکم الواقعی هو الحکم الظّاهري، فیلزم امتثاله، ولو وصل الحکم الواقعی لزم امتثاله
دون الحکم الظّاهري لانتفاء موضوعه.
صفحۀ 189 من 204
إشکال السیّد الاستاذ … ص: 357
وقد أشکل علیه سیّدنا الاستاذ قدّس سرّه بأنّ الحکم التکلیفی یتقوّم بإمکان داعویّته، ففی المورد الذي لا یمکن الإنبعاث یلغو حکم
.«1» الحکم، فإذا قامت الأمارة علی خلاف الواقع وکان مفادها حکماً إلزامیّاً، یمتنع بقاء الواقع، لعدم قابلیّته للدعوة
أقول:
إنّ ما أفاده للجمع بین الحکمین تام، والإشکال بلزوم لغویّۀ الحکم الواقعی غیر وارد، لوجود إمکان الدّاعویّۀ له، فلو وصل لأثّر أثره،
لکنّه لم یصل وقد وصل الحکم الظّاهري فکان هو المؤثّر، وهذا ما جاء التصریح به فی عبارته المنقولۀ عنه
__________________________________________________
.160 / 1) منتقی الاصول 4 )
ص: 358
.«1» وفی تقریره الآخر کذلک
هذا، وفی کلام السیّد الاستاذ- فی الصفحۀ السّابقۀ فی الإشکال علی المحقق الإصفهانی- ما یترائی منه المنافاة للإشکال علی مصباح
الاصول فتدبّر.
إلّا أنّ مشکلۀ اجتماع الإرادة والکراهۀ والحبّ والبغض موجودة.
طریق الشّیخ الاستاذ … ص: 358
تبعاً للمیرزا، ومشکلۀ الاصول غیر المحرزة « الطریقیّۀ » ثمّ إنّ الشیخ الاستاذ دام بقاه بعد أنْ حلّ مشکلۀ الأمارات والطرق عن طریق
« شرب الخمر » بطریق المحقّق الإصفهانی، أفاد فی حلّ مشکلۀ اجتماع الحبّ والبغض والإرادة والکراهۀ، أن متعلّق الکراهۀ مثلًا هو
فالمتعلّق مختلف، ولا یلزم الاجتماع مع اختلاف المتعلّق. « ما شک فی خمریّته » ومتعلّق الإرادة هو
ثم إنه أشار فی الدورة اللّاحقۀ بأنّ له طریقاً آخر لم یذکره توفیراً للوقت.
وکأنّه أراد ما أفاده فی الدّورة السّابقۀ، من أنّ المشکلۀ فی الاصول المحرزة وفی اجتماع الإرادة والکراهۀ، إنما تنشأ من الالتزام بأنّ
للشارع فی موارد الإباحۀ حکماً، فیقع الکلام فی کیفیۀ الجمع بینه وبین الحکم الواقعی، ولکنْ یمکن القول بعدم جعل الحکم فی
تلک الموارد، وتوضیحه:
ولسان قوله علیه «2» « کلّ شیء اضطرّ إلیه ابن آدم أحلّه اللَّه » : إنه لابدّ من الدقّۀ والتأمّل لمعرفۀ الفرق بین لسان قوله علیه السّلام
کلّ شیء هو لک » : السّلام
__________________________________________________
.121 / 1) دراسات فی علم الاصول 3 )
.516 / 2) جامع أحادیث الشیعۀ 14 )
ص: 359
.«1 …» « حلال حتی تعلم أنه حرام
قالوا: الحلیّۀ فی الأوّل واقعیۀ، لأن الإضطرار أمر واقعی، وفی الثانی ظاهریّۀ، لأن الشک من العوارض النفسانیۀ الطارئۀ.
فنقول: کما أنّ الإضطرار هناك یتقدّم علی مصلحۀ الواقع من باب التسهیل، فکذلک فی الثانی.
صفحۀ 190 من 204
لکن فیه: أنه یستلزم التصویب.
کلّ شیء لک حلال… » : والتحقیق أن یقال: بأنه لیس للشارع فی مورد البراءة حکم أصلًا، بل المراد من دلیلها عدم الحکم، فإذا کان
ظاهراً فی جعل الإباحۀ، فلابدّ من رفع الید عن هذا الظهور. «
وذلک: لأنه إذا علمنا بالغرض الواقعی والمصلحۀ الواقعیۀ فهو، وإن وقع الشک فی ذلک، فتارة: تکون المصلحۀ بحیث یوجب المولی
الاحتیاط، کما فی الدماء، واخري: لا، وفی هذه الحالۀ الأخیرة لا حکم بالاباحۀ من قبل الشارع.
وهذا فی عالم الثبوت ممکن وإنْ کان مخالفاً لظواهر الأدلّۀ.
وفی عالم الإثبات، عندنا روایۀ تفید أنّ الشارع قد جعل الجهل عذراً، فهی تصلح قرینۀً لرفع الید عن ظواهر أدلّۀ البراءة فی ظرف
الجهل والشک، وهی:
عن أبی علی الأشعري عن محمّد بن عبد الجبار ومحمّد بن إسماعیل عن الفضل بن شاذان جمیعاً عن صفوان عن عبد الرحمن بن
الحجاج عن أبی إبراهیم علیه السّلام قال:
__________________________________________________
. 89 ، الباب 4 من أبواب ما یکتسب به، رقم: 4 / 1) وسائل الشیعۀ 17 )
ص: 360
سألت عن الرجل یتزوّج المرأة فی عدّتها بجهالۀ، أهی ممّن لا تحلّ له أبداً؟
فقال: لا.
.«1 :…» « أما إذا کان بجهالۀٍ فلیتزوّجها بعد ما تنقضی عدّتها، وقد یعذر الناس فی الجهالۀ بما هو أعظم من ذلک. فقلت
فمدلولها أنه جعل الجهل عذراً للمکلّف، سواء فی الشبهات الحکمیّۀ والموضوعیّۀ.
فإنْ قلت: لعلّها فی جعل الجهل عذراً من حیث جواز أو عدم جواز النکاح بعد انقضاء العدّة، لا العذر من حیث العقاب، فلا ربط لها
بباب البراءة.
فیعمّ العقاب. « قد یعذر فی الجهالۀ بما هو أعظم منه » : قلت: هذا ظاهر الذیل، لکن الصّدر مطلق
فإنْ قلت: لا وجه للاستدلال بها فی المقام، لأنه یتوقف علی أن یندرج فیها مورد من موارد البراءة، لأنّ هذا الرجل الجاهل إن کان
شاکّاً فی أنّ علی المرأة المتوفی عنها زوجها أو المطلقۀ عدّة أوْلا، فحکمه عدم نفوذ النکاح للاستصحاب. فلا مورد للبراءة. وإنْ کان
شاکّاً فی مقدار العدّة، فیستصحب بقائها. فلا مورد للبراءة. وإنْ کانت الشبهۀ موضوعیۀ، فلا یدري هی عدّة الطّلاق وقد انقضت أو
عدّة الوفاء ولم تقض؟ فیرجع الشک إلی خروجها عن العدّة.
وعلیه إجراء استصحاب العدّة، وکذا یجري الاستصحاب لو علم بأنها عدّة الوفاة أو الطلاق وجهل بکونها فی العِدّة أو خرجت منها.
__________________________________________________
.427 / 1) الکافی 5 )
ص: 361
فعلی کلّ تقدیر، لا علاقۀ للروایۀ بباب البراءة حتی یستدلّ بها علیها.
قلت: هناك مورد، وهو توارد الحالتین علی المرأة، بأن یقع علیها الطلاق لکنه طلاق غیر المدخول بها، ثم یقع علیها طلاق آخر هو
طلاق المدخول بها، فیقع الشک فی التاریخ، وعلیها العدّة فی طلاقٍ دون الآخر، فیتعارض الاستصحابان ویکون من موارد البراءة.
بل یکون من موارد البراءة بناءً علی عدم جریان الاستصحاب فی الشبهات الحکمیّۀ، کما علیه النراقی والسید الخوئی.
وعلی الجملۀ: فإنّا ندّعی أنّ الحلیّۀ المستفادة من حدیث الرفع ونحوه هو:
صفحۀ 191 من 204
عدم إیجاب الشارع الإحتیاط، لا الحلیّۀ التی هی أحد الأحکام الخمسۀ.
وعدم جعل الإحتیاط لا ینافی وجود الحکم الواقعی.
وبعد، فإنه لا ریب فی وجود احتمال عدم جعل الشارع حکماً بعنوان الترخیص والحلّ فی مورد قاعدة الحلّ، وهذا الاحتمال یرفع
المحذور، لعدم الضرر فی احتمال التضاد.
ص: 362
الأمر الثالثفی مقتضی الأصل عند الشکّ فی حجیّۀ الأمارة … ص: 362
اشارة
لا یخفی أنّ من الأمارات ما قام الدلیل علی اعتباره کالبیّنۀ، ومنها ما قام الدلیل علی عدم اعتباره کالقیاس، ومنها ما اختلف فی اعتباره
کخبر الواحد الثقۀ.
قالوا: ولابدّ من تأسیس الأصل لیکون هو المرجع عند الشک فی حجیّۀ شیء من الأمارات، ثم اختلفت کلماتهم فی المراد من
کما سیظهر. « الحجیّۀ »
کلام الشیخ … ص: 362
قال الشیخ رحمه اللَّه:
التعبّد بالظن الذي لم یدل علی التعبّد به دلیل، محرّم بالأدلّۀ الأربعۀ:
«1» « قُلْ ء اللَّهُ أَذِنَ لَکُمْ أَمْ عَلَی اللَّهِ تَفْتَرُونَ » ویکفی من الکتاب: قوله تعالی
.دلّ علی أنّ ما لیس بإذنٍ من اللَّه من إسناد الحکم إلی الشارع فهو افتراء.
.«2» « ورجلٌ قضی بالحق وهو لا یعلم » :- ومن السنّۀ: قوله علیه السّلام- فی عداد القضاة من أهل النار
.«3» ومن الإجماع: ما ادّعاه الفرید البهبهانی فی بعض رسائله، من کون عدم الجواز بدیهیّاً عند العوام فضلًا عن العلماء
__________________________________________________
. 1) سورة یونس: 59 )
. 22 ، الباب 4 من أبواب صفات القاضی، رقم: 6 / 2) وسائل الشیعۀ 27 )
. 3) الرسائل الاصولیۀ: 12 )
ص: 363
ومن العقل: تقبیح العقلاء من یتکلّف من قبل مولاه بما لا یعلم بوروده عن المولی ولو کان جاهلًا مع التقصیر.
.«1» قال: والحاصل: إن المحرّم هو العمل بغیر العلم متعبّداً به ومتدیّناً به
فهو یري عدم جواز ترتیب أثر الحجیّۀ مع الشک فیها، بالأدلّۀ الأربعۀ، بمعنی عدم جواز إسناد مؤدّي ما یشک فی حجیّته من الأمارات
إلی الشارع، وعدم جواز الإستناد إلیه فی مقام العمل.
کلام صاحب الکفایۀ … ص: 363
وقال المحقق الخراسانی رحمه اللَّه:
صفحۀ 192 من 204
إنّ الأصل فیما لا یعلم اعتباره بالخصوص شرعاً ولا یحرز التعبّد به واقعاً عدم حجیّته جزماً، بمعنی: عدم ترتّب الآثار المرغوبۀ من
الحجۀ علیه قطعاً. فإنها لا تکاد تترتّب إلّاعلی ما اتّصف بالحجیّۀ فعلًا، ولا یکاد یکون الاتصاف بها إلّاإذا احرز التعبّد به وجعله طریقاً
متّبعاً، ضرورة أنه بدونه لا یصح المؤاخذة علی مخالفۀ التکلیف بمجرّد إصابته، ولا یکون عذراً لدي مخالفته مع عدمها، ولا یکون
مخالفته تجریّاً، ولا یکون موافقته بما هی موافقۀ انقیاداً وإنْ کانت بما هی محتملۀ لموافقۀ الواقع کذلک إذا وقعت برجاء إصابته، فمع
الشک فی التعبّد به یقطع بعدم حجیّته وعدم ترتّب شیء من الآثار علیه، للقطع بانتفاء الموضوع معه.
ولعمري، هذا واضح لا یحتاج إلی مزید بیان أو إقامۀ برهان.
__________________________________________________
.126 -125 / 1) فرائد الاصول 1 )
ص: 364
ثم اعترض علی قول الشیخ بأنّ الحجیّۀ هی جواز الإسناد والإستناد بقوله:
وأمّا صحّۀ الالتزام بما أدّي إلیه من الأحکام وصحۀ نسبته إلیه تعالی، فلیسا من آثارها.
ضرورة أن حجیّۀ الظن عقلًا علی تقریر الحکومۀ فی حال الإنسداد لا توجب صحّتهما، فلو فرض صحتهما شرعاً مع الشکّ فی التعبد به
لما کان یجدي فی الحجیّۀ شیئاً ما لم یترتب علیه ما ذکر من آثارها، ومعه لَما کان یضرّ عدم صحّتهما أصلًا، کما أشرنا إلیه آنفاً، فبیان
عدم صحۀ الالتزام مع الشک فی التعبّد، وعدم جواز إسناده إلیه تعالی غیر مرتبط بالمقام، فلا یکون الاستدلال علیه بمهم، کما أتعب
.«1 …» به شیخنا العلّامۀ نفسه الزکیّۀ
ومحصّل کلامه:
إنّ آثار الحجیّۀ هی المنجّزیۀ والمعذریّۀ والتجرّي والانقیاد، وهی آثار عقلیّۀ تدور مدار وصول الحجّۀ وتحقّق التعبّد به، ومع الشکّ
فی التعبّد بمؤدّي الظن یقال بعدم ترتب تلک الآثار، ولا حاجۀ إلی الاستدلال لعدم جواز التعبّد بالأدلّۀ اللّفظیۀ من الکتاب والسنّۀ کما
فعل الشیخ.
وأیضاً: ففی الاستدلال بذلک علی عدم اعتبار الأمارة المشکوك فی صحّتها بأنّ الالتزام بمثل تلک الأمارة وإسناد مؤداها إلی اللَّه
افتراء علیه، إشکال آخر، من جهۀ أن عدم جواز الإسناد والإستناد لا یکشف دائماً عن عدم الحجیّۀ، لأن الحجیّۀ فی ظرف الإنسداد
ثابتۀ للظنّ عقلًا بناءً علی الحکومۀ، والحال أنه
__________________________________________________
.280 - 1) کفایۀ الاصول: 279 )
ص: 365
لا یجوز الإسناد.
فظهر أن صاحب الکفایۀ یخالف الشیخ فی نقطتین:
الاولی: فی آثار الحجیّۀ.
والثانیۀ: فی کیفیّۀ الاستدلال لأصالۀ عدم الحجیّۀ.
رأي السید الخوئی … ص: 365
وقد تبع السید الخوئی الشیخ قدّس سرّهما، قال:
إن الحجیّۀ لها أثران، صحّۀ الإستناد إلیها فی مقام العمل وصحّۀ إسناد مؤدّاها إلی الشّارع.
صفحۀ 193 من 204
ثم قال مستشکلًا علی الکفایۀ:
وأمّا تنجیز الواقع فلا یتوقّف علی الحجیّۀ، لأنه ثابت بالعلم الإجمالی الکبیر، أيالعلم الإجمالی بالتکالیف الواقعیۀ أو بالعلم الإجمالی
الصغیر، کما فی دوران الأمر بین وجوب الظهر والجمعۀ أو دوران الأمر بین وجوب القصر والتمام، بلا فرق فی ذلک بین الشبهات
الحکمیّۀ والموضوعیۀ، بل قد یکون التنجیز ثابتاً بمجرّد الاحتمال کما فی الشبهات قبل الفحص. ففی جمیع هذه الموارد کان التنجیز
ثابتاً قبل قیام الأمارة علی التکلیف، ومع قیامها علیه لا یجئ بتنجیز آخر.
قال: نعم، کان قیام الأمارة المعتبرة علی أحد طرفی العلم الإجمالی مسقطاً لوجوب الإحتیاط وکان معذّراً علی تقدیر مخالفۀ الواقع،
کما إذا دلّت الأمارة علی وجوب صلاة الظهر وعمل بها المکلّف وکان الواجب فی الواقع هو صلاة الجمعۀ، فکان المکلّف حینئذٍ
معذوراً غیر مستحقٍّ للعقاب لا محالۀ.
ص: 366
ثم ذکر إشکال الکفایۀ علی الشیخ وأجاب عنه فقال:
ما ذکره صاحب الکفایۀ من أنه لا یمکن أن لا یکون الشیء حجۀً وصحّ إسناد مؤدّاه إلی الشارع، لا یتصوّر له وجه معقول إلّامع
الالتزام بجواز التشریع.
وکذا ما ذکره من أنه یمکن أنْ یکون الشیء حجۀً ولا یصحّ إسناد مؤدّاه إلی الشارع، فإنه أیضاً مجرّد تخیّل لا یتعقّل له وجه صحیح.
وأمّا ما ذکره من أنّ الظنّ علی تقریر الحکومۀ حجۀ ولا یصح إسناد المظنون إلی الشارع، ففیه: إنّ مقدّمات الإنسداد علی تقریر
الحکومۀ، لا تنتج حجیّۀ الظنّ، بل نتیجتها التبعیض فی الاحتیاط، بالأخذ بالمظنونات دون المشکوکات والموهومات.
.«1 …» قال: فتحصّل أن الصحیح ما ذکره الشیخ
أقول:
ویمکن الجواب: بأنه إذا کان عندنا علم إجمالی بحرمۀ أحد الإناءین مثلًا، وأثّر العلم استحقاق العقاب علی ارتکابهما معاً، فإذا قام خبر
الواحد علی کون أحدهما المعیّن هو المحرّم، لا یکون أثره التنجّز مرّةً ثانیۀً، لأن المنجّز لا یتنجّز ثانیاً، لکنْ تصحّ مؤاخذة المکلّف
علی مخالفته للخبر القائم والاعتذار، فالقول بأنّ المنجزیّۀ أثر العلم لا الحجیّۀ، لا یمکن المساعدة علیه، فکانت صحّۀ المؤاخذة مستندة
إلی الحجّ ۀ وإنْ کانت هناك حجّ ۀ أخري، ولا أقلّ من أن تکون الحجّۀ الثانیۀ مؤکّدة للُاولی، فلم یکن جعلها فی ظرف وجود الاولی
بلا أثر، فیتمّ ما ذکره
__________________________________________________
.113 -111 / 1) مصباح الاصول 2 )
ص: 367
صاحب الکفایۀ.
ثم إنّ الحجیّۀ مباینۀ مفهوماً مع جواز الإسناد والإستناد، وأمّا من حیث المصداق، فکلّ مورد جاز فیه الإسناد والإستناد وجدت الحجیّۀ
هناك ولا عکس.
وعلیه، فجواز الإسناد قبل الفحص إلی الشارع وإنْ کان الاحتمال حجۀً، والعلم الإجمالی بوجوب الظهر أو الجمعۀ حجۀ بالنسبۀ إلی
کلیهما، ولکنْ لا یجوز إسناد وجوبهما إلی الشارع، وکذا حجیّۀ الظن الإنسدادي بناءً علی الحکومۀ، فإنها موجودة ولکنْ لا یجوز
إسناد المظنون إلی الشارع.
فظهر: أن الحجیّۀ أعم من جواز الإسناد والإستناد.
وتح ّ ص ل: أن الأثر لیس ما ذکره الشیخ فقط، بل هو المنجزیّۀ أیضاً، بمعنی المصححیّۀ لجواز الإستناد إلیه فی المؤاخذة، لا بمعنی
صفحۀ 194 من 204
استحقاق المؤاخذة.
هذا، ولا یخفی أنه إن کانت الحجیّۀ بمعنی الطریقیّۀ، فهی غیر منفکّ ۀ عن جواز الإسناد، وأمّا إن کانت بمعنی یُحتجّ به بین المولی
والعبد، وقع التفکیک بینهما وبین جواز الإستناد، وهذه نکتۀ مهمّۀ.
الأصل العقلی … ص: 367
وإذا کان الشارع قد جعل الطریقیّۀ لخبر الثقۀ مثلًا، فإنّه ما لم یصل إلی المکلّف لم یجز إسناد مؤدّاه إلی الشارع، فیکون جواز الإسناد
من آثار الحجیّۀ- بمعنی الطریقیّۀ- لدي الوصول، وهذا معنی کلام الشیخ بأنه مع الشک فی الحجیّۀ الأصل عدم الحجیّۀ بحکم العقل
قطعاً. وأمّا بالنسبۀ إلی المعذریّۀ والمنجزیۀ، فإنّه مع الشک فی الحجیّۀ یقطع بعدمها، ضرورة أن الوصول لابدّ منه.
وبما ذکرنا ظهر الأصل العقلی فی المسألۀ، إذْ لمّا کان کلّ من المنجزیّۀ
ص: 368
وجواز الإستناد والإسناد موقوفاً علی الوصول، فما لم یتحقق الوصول تکون الحجیّۀ مشکوکاً فیها، ومع الشک فی الحجیّۀ یقطع
بعدمها.
الأصل اللّفظی … ص: 368
وأسّس الشیخ قدس سرّه الأصل اللّفظی أیضاً، لأنّ مقتضی عمومات النهی عن العمل بالظنّ هو: عدم التعبّد بکلّ ظن من الظنون إلا ما
وَلا تَقْفُ ما لَیْسَ » خرج بالدلیل، فإذا شک فی جواز التعبّد بطنٍ یکون مرجع الشک إلی التّخصیص الزائد، وفی مثله یتمسّک بعموم
«1» « لَکَ بِهِ عِلْمٌ
ونحوه. فالأصل فیما شک فی حجیّته هو العدم.
وقد أورد علیه السید الخوئی والمیرزا النائینی، کلّ بوجه:
إشکال السیّد الخوئی … ص: 368
أمّا السیّد الخوئی فملخّص کلامه:
إن الأخذ بأصالۀ العموم إنما یکون فیما إذا کان الحکم مولویّاً، وأمّا إذا کان إرشادیاً، فلا عموم حتی یتمسّک بأصالۀ العموم فی
.«2» موارد الشک فی التخصیص الزائد، وأدلّۀ النهی عن الظنّ إرشاد إلی حکم العقل بعدم جواز المتابعۀ للظن
مناقشته … ص: 368
وفیه: إن الأصل فی الخطابات الشرعیّۀ هو المولویّۀ، ولا یخرج عن هذا الأصل إلّابدلیل، والحمل علی الإرشادیۀ إنما یکون حیث لا
یصحّ عمل الخطاب علی التعبّۀ کما إذا کان الدلیل الصادر وارداً مورد الإطاعۀ والمعصیۀ کقوله تعالی:
__________________________________________________
. 1) سورة الإسراء: 36 )
.114 / 2) مصباح الاصول 2 )
ص: 369
«1» « أَطیعُوا اللَّهَ وَأَطیعُوا الرَّسُولَ »
صفحۀ 195 من 204
، فإن هذه الآیۀ فی طول الأحکام الشرعیۀ المتقدّم علیها، ولا یمکن حملها علی المولویّۀ، للزوم التسلسل، فلابدّ من حملها علی
الإرشادیۀ. أمّا مع إمکان إبقائها علی المولویّۀ فلا تحمل علی الإرشادیۀ.
وما نحن فیه ممّا یمکن حمله علی المولویّۀ، فلا وجه لحمله علی الإرشادیۀ، ولذا لا یحمل ما ورد فی النهی عن الظلم علی الإرشادیۀ
مع أنّ العقل حاکم بذلک أیضاً، فکذلک نهیه عن اتّباع الظنّ لا یکفی لحمل ما ورد فی الشریعۀ فی الباب علی الإرشادیّۀ، لإمکان
حمله علی المولویۀ وجواز التعبّد به.
آب عن التخصیص. « إِنَّ الظَّنَّ لایُغْنی مِنَ الْحَقِّ شَیْئًا » : وقوله رحمه اللَّه: بأنْ قوله تعالی
فیه: إن صِ رف عدم القابلیّۀ للتخصیص لا یوجب الحمل علی الإرشادیۀ، بدلیل أن حرمۀ الظلم لا تقبل التخصیص، ومع ذلک لا تحمل
لاتَأْکُلُوا أَمْوالَکُمْ » : الأدلۀ الناهیۀ عنه علی الإرشادیۀ، وکذا الأدلۀ فی حرمۀ الإعانۀ علی الإثم علی القول بذلک، وکذا قوله تعالی
فعدم القابلیۀ للتخصیص لازم أعم. .« بَیْنَکُمْ بِالْباطِلِ
علی المولویۀ- وإن کان لا یقبل التخصیص قطعاً- لأنّ دلیل اعتبار الظن « إِنَّ الظَّنَّ لایُغْنی مِنَ الْحَقِّ شَیْئًا » : فالتحقیق حمل قوله تعالی
فی موردٍ، یلغی احتمال الخلاف، وعلیه السیرة العقلائیۀ، فیکون حاکماً علی الآیۀ، والحکومۀ هی التخصیص لبّاً غیر أنها إخراج بلسان
نفی الموضوع، وفی التخصیص إخراج مع حفظه، ومتی شکّ فی الإخراج الزائد- سواء بلسان الحکومۀ أو التخصیص- کان
__________________________________________________
. 1) سورة النساء: 59 )
ص: 370
عموم الآیۀ هو المرجع.
إشکال المیرزا النائینی … ص: 370
وأمّا المیرزا، فملخّص إشکاله هو:
إنّ التمسّک بالأدلّۀ الناهیۀ عن العمل بالظن لدي الشک فی حجیۀ ظنٍّ من الظنون، من التمسّک بالعام فی الشبهۀ الموضوعیۀ له، ببیان:
إن المستفاد من دلیل الاعتبار للظنّ هو التعبّد به واعتباره علماً بإلغاء احتمال الخلاف، ومع اعتباره کذلک یکون دلیله حاکماً علی أدلّۀ
النهی عن اتّباع الظنّ، فإنْ شک فی اعتبار ظنٍ رجع الشک إلی جعل الشارع إیّاه علماً، فیکون الموضوع لأدلّۀ النهی عن اتّباع الظن
.«1» مشکوکاً فیه، فلو ارید التمسّک بها کان من التمسّک بالعام فی الشبهۀ الموضوعیّۀ
مناقشته … ص: 370
وقد أجاب عنه فی مصباح الاصول: بأنّا نسلّم بهذه الحکومۀ، لکنّها متوقّفۀ علی الوصول، وما دام اعتبار الظنّ غیر واصل فلا حکومۀ،
ویکون موضوع أدلّۀ النهی- وهو عدم العلم لا باقیاً، وعلیه، ففی کلّ ظنٍ شک فی اعتباره، بمعنی عدم الوصول، یتمسّک بالعام، لعدم
«2» . الحکومۀ، ولا إشکال
أقول:
وفیه تأمّل، والوجه فی ذلک: عدم مدخلیّۀ الوصول، لأنّ الحکومۀ هی التصرّف فی موضوع الدلیل، إمّا بالنفی وإمّا بالإثبات، فإنْ کان
الثانی أنتج التوسعۀ
__________________________________________________
.148 / 1) أجود التقریرات 3 )
صفحۀ 196 من 204
.115 / 2) مصباح الاصول 2 )
ص: 371
فی الموضوع مثل: الطواف بالبیت صلاة، وإنْ کان الأول أنتج فیه التضییق وکان فی قوّة التخصیص مثل: لا ربا بین الوالد والولد…
فالحکومۀ تصرّف من الشارع فی موضوع المحکوم، ولا یکون فعل الشارع متقوّماً بالوصول إلی المکلّف.
وفیما نحن فیه: یعتبر المولی خبر الثقۀ علماً لیخرج من تحت الآیۀ المبارکۀ:
«1» « وَلا تَقْفُ ما لَیْسَ لَکَ بِهِ عِلْمٌ »
، فهی حکومۀ جاءت من جعل المولی واعتباره، ولا معنی لتقوّم جعله بالوصول.
وبعبارة اخري: إنّ الوصول متقوّم بالواصل، ولولا وجوده قبل الوصول لم یتحقق الوصول، ولیس الواصل إلّااعتبار الشارع، فکان اعتبار
الشارع- وهو تصرّفه فی الموضوع کما مرّ- متقدّماً علی الوصول، فیستحیل أنْ یکون دخیلًا فی اعتبار الشارع.
فالإشکال علی المیرزا مندفع.
وَلا تَقْفُ ما لَیْسَ لَکَ بِهِ » لکنّ التحقیق: أن ما نحن فیه لیس من التمسّک بالدلیل فی الشبهۀ الموضوعیۀ، لأنّ الدلیل هو قوله تعالی
والحکومۀ مسلّمۀ ولا تقوّم لها بالوصول، غیر أنّه قد اعتبر فی الدلیل الوصول إلی المکلّف قیداً لارتفاع الموضوع، لقوله تعالی « عِلْمٌ
فکأنه یقول: لا یجوز العمل بغیر العلم الواصل إلیک، فلم یکن المعتبر هو العلم وحده، بل العلم الواصل، وحینئذٍ، لا .« لَکَ بِهِ عِلْمٌ »
یکون التمسّک بالعامّ من التمسّک به فی الشبهۀ الموضوعیۀ له، لأنه مع الشک لا یتحقق الموضوع المقیّد.
__________________________________________________
. 1) سورة الإسراء: 36 )
ص: 372
فظهر أنه لا حاجۀ إلی التمحّ ل والقول بتوقف الحکومۀ علی الوصول، بل نقول بأنّ ما اخذ فی موضوع الدلیل هو بلسانٍ قاصرٍ فی
موارد الشک.
فثبت الأصل اللّفظی.
الأصل العملی … ص: 372
قد تقدّم أنّ أثر الحجیّۀ هو المنجزیّۀ والمعذریّۀ وجواز الإسناد والإستناد، مع دفع الإیراد بالعلم الإجمالی علی کلام الکفایۀ، ولنا فی
دفع الإیراد المذکور بیانٌ آخر هو:
إنه مع وجود العلم الإجمالی یمکن جعل الحجیّۀ، بل هو واقع، لأنّ العلم الإجمالی بیانٌ للجامع، وما یکون بیاناً للجامع یستحیل أن
یکون بیاناً للخصوصیّۀ، وإذا استحال ذلک، کان منجزیّۀ العلم للخصوصیّۀ من جهۀ احتمال انطباق الجامع علی الخصوصیّۀ، فالمنجزیّۀ
بالنسبۀ إلی الأطراف هو من جهۀ المقدمیّۀ لفراغ الذمّۀ ومن باب أصالۀ الاحتیاط، وعلیه، فالشارع یجعل الخبر حجۀً علی الخصوصیّۀ
کخصوص صلاة الجمعۀ، ویحصل المنجّز لها خاصّۀ، وعلیه، فالإشکال بتحقّق الحجیّۀ بالعلم الإجمالی مندفع.
وبعد هذه المقدّمۀ:
قال الشیخ: لا یجري استصحاب عدم جعل الحجیّۀ، لعدم ترتّب أثر علی الوجود الواقعی للحجیّۀ.
قال: فإن حرمۀ العمل بالظن یکفی فی موضوعها عدم العلم بورود التعبّد، من غیر حاجۀٍ إلی إحراز عدم ورود التعبد به لیحتاج فی
ذلک إلی الأصل ثم إثبات الحرمۀ.
ص: 373
صفحۀ 197 من 204
والحاصل: إن أصالۀ عدم الحادث إنما یحتاج إلیها فی الأحکام المترتبۀ علی عدم ذلک الحادث، وأما الحکم المترتب علی عدم العلم
.«1 …» بذلک الحادث فیکفی فیه الشک ولا یحتاج إلی إحراز عدمه بحکم الأصل
أقول:
حاصل کلام الشیخ: إن الإستصحاب لابدّ وأن یکون ذا أثر، فإنْ کان مترتباً علی العدم أو الوجود جري الإستصحاب وابقی الوجود أو
العدم تعبّداً، أما إذا کان مترتباً علی عدم الإحراز فلا، لأنّ عدم الإحراز حاصل بالوجدان، وحینئذٍ، لا معنی للتعبد بعدم الإحراز. وقد
استفاد المیرزا من هذا الکلام قاعدةً هی: أنه متی کان الموضوع حاصلًا بالوجدان فإحرازه بالتعبّد تحصیل للحاصل.
وفی ما نحن فیه: الأثر هو للشکّ فی الحجیّۀ، وهو أيالشک حاصل بالوجدان، فلا معنی للإستصحاب.
إشکال المحقق الخراسانی علی الشیخ … ص: 373
:«2» أشکل المحقق الخراسانی بوجهین
الوجه الأول … ص: 373
إنه قد وقع الخلط بین الإستصحاب فی الموضوعات والإستصحاب فی الاحکام، لأن الشیخ قال بأنْ لا أثر لاستصحاب عدم الحجیّۀ، بل
الأثر لعدم إحراز الحجیّۀ، فالإشکال هو: إنّ الکلام عن الأثر إنما یکون فی استصحاب الموضوع، وأمّا فی الحکم فلا، إن الموضوع
أمرٌ تکوینی ولابدّ للحکم والتعبد فیه من أثر،
__________________________________________________
.128 -127 / 1) فرائد الاصول 1 )
. 2) درر الفوائد فی حاشیۀ الفرائد: 43 )
ص: 374
بخلاف الحکم فإنه مجعول شرعیّ، والذي نرید استصحابه هنا هو عدم الحجیّۀ، وهذا من الأحکام الشرعیۀ لا الموضوعات، نعم، هو
من الأحکام الشرعیۀ الوضعیۀ لا التکلیفیّۀ.
الوجه الثانی … ص: 374
تارةً: الأثر أثر الشیء فی وجوده أو عدمه، وتارة: هو أثر الشک فی وجود الشیء وعدمه، وثالثۀ: یکون الأثر أثراً للشیء وللشکّ فیه.
فإنْ کان من قبیل الأوّل، فالمرجع هو القاعدة العقلیۀ ولا یجري الإستصحاب. وإنْ کان من قبیل الثانی، جري الإستصحاب ولا مجال
للقاعدة، وإن کان من قبیل الثالث، جري الإستصحاب والقاعدة معاً.
وما نحن فیه من قبیل الثالث، لأنّ الشیء المشکوك فی حجیّته، إنْ لم یکن حجۀً لم یجز الإسناد والإستناد علی قول الشیخ ولم یتحقّق
الحجیّۀ.
وعلی الإجمال، إنه علی فرض التسلیم بالحاجۀ إلی الأثر، فإن الاستصحاب هنا ذا أثر، وهو الحکومۀ علی حکم العقل بعدم الحجیّۀ
الفعلیۀ عند الشک فی الحجیّۀ، ومع الشک فیها فلا منجزیۀ ومعذریّۀ، لکنّ الاستصحاب یرفع الشک فی الحجیّۀ ویکون حاکماً علی
الحکم العقلی.
فالمقتضی لجریان الاستصحاب موجود والمانع مفقود.
صفحۀ 198 من 204
تأیید المیرزا الشیخ … ص: 374
(الوجه الأوّل)
مؤیّداً الشیخ: «1» وقال المیرزا
أوّلًا: إن الإستصحاب من الاصول العملیّۀ، ویشترط فی جریانه أن یکون
__________________________________________________
.127 / 1) فوائد الاصول 3 )
ص: 375
للمتیقّن السابق الذي یراد إبقاؤه أثر عملی فیتعبّد ببقائه، فإنْ لم یکن للواقع أثر، بل لو کان الأثر مترتباً علی الجهل به أو مشترکاً بین
الواقع والجهل به، لم یجر الإستصحاب، لأنه بمجرّد الشک فی الواقع یترتب الأثر ویلغو الاستصحاب، لکونه تحصیلًا للحاصل، لأن
المفروض ترتب الأثر علی عدم الحجیّۀ وهو عدم صحۀ الإسناد والإستناد، بمجرّد الشکّ فی الحجیّۀ.
إشکال السید الخوئی … ص: 375
أشکل علیه فی مصباح الاصول:
بأنّ المقام لیس من قبیل تحصیل الحاصل، لأنّ ما یحکم به العقل بمجرد الشک فی الحجیّۀ هو عدم الحجیّۀ الفعلیۀ، وما هو مورد
.«1» التعبد الاستصحابی هو عدم إنشاء الحجیّۀ وعدم جعلها من قبل الشارع، فما هو حاصل بالوجدان غیر ما یحصل بالتعبد
مناقشته … ص: 375
وفیه:
أوّلًا: إنّ هذا مردود بما جاء فی بحثه فی مسألۀ جریان الاستصحاب فی الشبهات الحکمیۀ، فقد اختار عدم جریانه فیها، وذکر فی وجه
ذلک: وقوع التعارض بین استصحاب المجعول مع استصحاب عدم الجعل، ونقل هناك رأي المیرزا من عدم جریان عدم الجعل حتی
یقع التعارض، لعدم الأثر لإنشاء الشارع عدم الجعل، بل الأثر دائماً للمنشأ.
فإذا کان هذا رأي المیرزا، فالإشکال علیه هنا بما ذکره إشکالٌ مبنائی.
__________________________________________________
.117 / 1) مصباح الاصول 2 )
ص: 376
وثانیاً: إنه لیس الکلام فی مغایرة موضوع الحکم العقلی مع موضوع التعبد الشرعی بالاستصحاب، بل إن الإشکال هو ضرورة الأثر
العملی وإن کان المستصحب حکماً شرعیّاً، والأثر هنا لیس إلّاالمنجزیۀ والمعذریۀ- علی مبنی صاحب الکفایۀ- والاسناد والاستناد
علی مبنی الشیخ. وکلّ ذلک أثر إنشاء الحجیّۀ الواصلۀ إلی المکلّف، ولولا الوصول فلا أثر من تلک الآثار. فما ذکره غیر دافع
الإشکال.
الحقّ فی الإشکال … ص: 376
بل الحق فی الإشکال علی المیرزا:
صفحۀ 199 من 204
أوّلًا: بالنقض بجریان الاستصحاب فی الوجوب والحرمۀ، وهل للوجوب أو الحرمۀ فی الواقع أثر عملی أو أن الأثر فرع الوصول؟ من
الواضح أن أثر الوجوب هو الإنبعاث وأثر الحرمۀ هو الانزجار، وکلاهما متوقّف علی الوصول.
فما هو الجواب عن استصحاب الوجوب والحرمۀ هو الجواب عن استصحاب الحجیّۀ وعدمها.
وثانیاً: بالحلّ، بأنْ یقال: إنه یعتبر فی جمیع الأحکام الشرعیۀ أن یکون الوجود الواقعی ذا اقتضاءٍ للتأثیر بشرط الوصول، فالمقتضی هو
الإنشاء من الشارع، وشرط التأثیر العملی هو الوصول إلی المکلف، کما ذکرنا فی استصحاب الوجوب والحرمۀ، إذ مجرّد الإنشاء ما لم
یصل لا یؤثّر فی الانبعاث والإنزجار، ففعلیۀ الأثر بالوصول. والحجیّۀ کذلک، فإنْ جعلها الشارع تحقق المقتضی للتنجیز والإعذار، فإذا
وصل الجعل إلی المکلف حصلت الفعلیۀ.
والحاصل: إن الحال فی جمیع الأحکام الشرعیّۀ هکذا، فالأثر الوجود
ص: 377
الواقعی فی مرحلۀ الإقتضاء والفعلیۀ للأثر تدور مدار وصولها، سواء کان الحکم تکلیفیّاً أو وضعیّاً.
إن الشارع یجعل الحکومۀ للفقیه فیقول: جعلته حاکماً، لکنّ هذا الجعل ما لم یصل إلیه وإلی المکلّفین یکون بلا أثر، کذلک الحجیّۀ،
فإن جعلها یفید الاقتضاء للمنجزیّۀ والمعذریّۀ والإسناد والاستناد، وفعلیّۀ هذا المقتضی یکون بالوصول.
إذاً، الأثر الاقتضائی حاصل لهذا الإستصحاب. فکلام المیرزا تبعاً للشیخ مردود.
تأیید المیرزا الشیخ (الوجه الثانی …) ص: 377
وقال المیرزا:
ثانیاً بأن التمسّک بالاستصحاب المذکور لغو محض، لأنّ الأثر یترتب علی نفس الشک فی الحجیّۀ، فإحراز عدم الحجیّۀ بالتعبّد
.«1» الإستصحابی لا یترتب علیه فائدة، فیکون لغواً
توضیحه: إنه بمجرّد الشک فی الحجیّۀ یحکم العقل بعدم جواز الإسناد والإستناد، فکان الشک هو الموضوع وعدم جواز الإسناد
والاستناد- وکذا عدم المنجزیۀ والمعذریّۀ- هو المحمول، فلا ریب فی ترتب هذه الآثار بمجرّد تحقق الموضوع. وأمّا الاستصحاب،
فموضوعه هو الشک والمحمول عدم جواز النقض، وبعد ذلک یعتبر بقاء الیقین وعدمه، ثم یرتّب عدم جواز الإسناد والإستناد،
وبذلک یظهر أنّ الحکم العقلی بعدم جواز الاسناد والاستناد مترتب
__________________________________________________
.128 / 1) فوائد الاصول 3 )
ص: 378
علی نفس الشک، فلو ارید تحصیل عدم جواز ذلک بالإستصحاب کان تحصیلًا للحاصل وجداناً بالتعبّد، وهو لغو.
هذا، ولا یخفی أنّ تحصیل الحاصل وجداناً بالتعبّد لیس له استحالۀ ذاتیّۀ، بل هو محالٌ لأنّ اللّغو علی الحکیم محال.
جواب المحقق العراقی … ص: 378
:«1» وقد أجاب المحقق العراقی بما حاصله
إنّ حکم العقل مع وجود الحکم الشرعی عن طریق الاستصحاب، سالبۀ بانتفاء الموضوع.
جواب المحقق الإصفهانی … ص: 378
صفحۀ 200 من 204
:«2» وأجاب المحقق الإصفهانی بما حاصله
إن رفع الید عن حکم العقل هنا تخصّصی، ورفعها عنه حکم الشارع تخصیص بلا دلیل، وإذا دار الأمر بین التخ ّ صص والتخصیص
تقدّم الأول.
توضیح الأول: إنّ الأحکام العقلیۀ علی قسمین، قسم منها تنجیزي وقسم تعلیقی، فإنْ کان ما نحن فیه من قبیل الأوّل، تمّ ما ذکره، لکنه
أيالمشکوك فیه- إلی الشارع، وهذا هو الموضوع لحکمه، - « ما لا یعلم » من قبیل الثانی، فإنّ موضوع حکم العقل عدم جواز إسناد
فإنْ ارتفع الشکّ وجداناً أو بالتعبّد، انتفی الموضوع وکان الحکم منتفیاً بانتفائه، وعلی الجملۀ، فإن حکم العقل متوقف علی وجود
الشک عقلًا وشرعاً، لکنّ دلیل الاستصحاب رافع للشک.
__________________________________________________
131 ، الهامش. / 1) فوائد الاصول 3 )
.163 / 2) نهایۀ الدرایۀ 3 )
ص: 379
وتوضیح الثانی: إن سقوط دلیل الاستصحاب هنا بحکم العقل ورفع الید عن جریانه یستلزم التخصیص فی أدلّۀ الاستصحاب، لأن
المفروض وجود موضوعه- وهو الشک- بالوجدان، والیقین السابق بعدم الحجیّۀ أیضاً موجود، فأرکانه تامۀ، فإذا لم یجر یلزم
التخصیص فی أدلّته من غیر مخصّص، لأنّ ما یحتمل أن یکون مخصّصاً لیس إلّاحکم العقل، لکنّ مخصصّیۀ حکم العقل موقوفۀ علی
وجود المقتضی لجریانه، ووجوده موقوف علی عدم جریان عمومات الاستصحاب، لکنّ عدم جریانها موقوف علی تخصیص حکم
العقل، وهذا دور.
وهکذا یندفع إشکال المیرزا ویتمّ الأصل العملی الشرعی.
إلّا أن یقال:
إن ما ذکر مبنی علی أن یکون الشکّ هو الموضوع لحکم العقل، فیتقدم علیه دلیل الاستصحاب کما تقدّم. أمّا إن کان الموضوع له
هو عدم وصول الحجیّۀ، الملازم للشک، فإنّ عدم وصولها یساوي وصول عدمها، لکنّ نتیجۀ التعبّد الشّرعی بالإستصحاب إنه: واصلٌ
فیکون موضوع حکم العقل باقیاً والاستصحاب غیر رافعٍ له. فتأمّل. « عدم وصول الحجیّۀ » إلیک عدم الحجیّۀ، وهذا غیر رافع ل
هذا تمام الکلام فی مقتضی الأصل فی حجیۀ الظن، ومقتضی القاعدة أن یتمسّک أوّلًا بالأصل اللّفظی ثم علی فرض التنزّل بالأصل
العملی، ثم بالأصل العقلی.
ویقع البحث فی الأمارات بعون اللَّه.
تعریف مرکز