گروه نرم افزاری آسمان

صفحه اصلی
کتابخانه
جلد اول
الزهراء وتر لا یغمد







اشاره
وَلَقَدَ أَنزَلْنَآ إِلَیْکُمْ ءَایَات مُّبَیِّنَات وَمَثَلًا مِنَ الَّذِینَ خَلَوْا مِن قَبْلِکُمْ وَمَوْعِظَۀً لِّلْمُتَّقِینَ، اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالَارْضِ مَثَلُ نُورِهِ کَمِشْکَاةٍ فِیهَا
مِصْ بَاحٌ الْمِصْ بَاحُ فِی زُجَاجَۀٍ الزُّجَاجَۀُ کَاَنَّهَا کَوْکَبٌ دُرِّيٌّ یُوقَدُ مِن شَجَرَة مُبَارَکَۀ زَیْتُونَۀ لاَّ شَرْقِیِّۀ وَلَا غَرْبِیَّۀ یَکَادُ زَیْتُهَا یُضِیءُ وَلَوْ لَمْ
تَمْسَ سْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَی نُورٍ یَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن یَشَآءُ وَیَضْرِبُ اللَّهُ الَامْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِکُلِّ شَیْءٍ عَلِیمٌ، فِی بُیُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَیُذْکَرَ
فِیهَا اسْمُهُ یُسَبِّحُ لَهُ فِیهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ، رِجَالٌ لاَّ تُلْهِیهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَیْعٌ عَن ذِکْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِیتَآءِ الزَّکَاةِ یَخَافُونَ یَوْماً تَتَقَلَّبُ فِیهِ
38 ) لم یکن خلق - الْقُلُوبُ وَالَابْ َ ص ارُ، لِیَجْزِیَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَیَزِیدَهُم مِن فَضْ لِهِ وَاللَّهُ یَرْزُقُ مَن یَشَآءُ بِغَیْرِ حِسَ ابٍ (النور/ 34
الإنسان عبثاً، فحاشی لله الحکیم العلیم. کذلک السماوات والأرض هی الأخري ما صنعت لهواً ولا عبثاً، بل خلقت مرتبطۀ بمصیر
الإنسان وحیاته علی هذا الکوکب البسیط. لذا لما کانت لهذا الخلق وهذه الصنعۀ والحیاة هدفیّۀ، فکان لابد للنظم من أن یوکل إلی
الإنسان حین الخلق، ولم یکن هذا أن یکال إکراهاً، ذلک لأن الله سبحانه وتعالی جعل الاختیار والحریۀ للإنسان فی اتخاذ مسالکه
ومناهله، وفی ذات الوقت بیّن له -إلی جانب ذلک- سبیل الهدي والرشاد والصلاح عن طریق الآیات الإلهیۀ والرسل والأنبیاء. وفیما
یخص بحثنا هذا، نشیر إلی أن واحدة من تلکم النظم نظام الأسرة، کأحد أهم نظم الاجتماع؛ الأسرة التی تجسد اللبنۀ الأولی والرکیزة
الأساسیۀ فی هیکل البناء الاجتماعی للإنسان، حیث یشمخ هذا البناء برصانۀ بالغۀ إذا ما کانت نواته وخلیته الأسریۀ تشدها أواصر
المحبۀ، وقائمۀ علی أسس التعاون والإخلاص والتنسیق وتبادل العمل وروح النشاط والمثابرة. فلقد أراد الله تبارك وتعالی أن یکون
الصرح الاجتماعی الفاضل مقاماً علی أساس الأسرة الذي هندسته وخططته الرسالۀ الإسلامیۀ الرشیدة، ومن مجموع الأسر المتینۀ
المتماسکۀ یکوّن ویتألّف البناء الأسري الرصین، وتتکامل مناحی الحیاة الطبیعیۀ بأنسیاب نحو تحقیق الکمال وعبادة الکامل المطلق.
ولعل أبرز وأعظم ما خطط له الإسلام العظیم وأمر بامتثاله هو التنظیم الأسري القائم والمنطلق من أعماق الفطرة الإنسانیۀ؛ أي تلک
صفحۀ 19 من 36
المجموعۀ من السنن والقوانین والأنظمۀ الإلهیۀ والغرائز المهّذبۀ الموجّهۀ بالنحو الإیجابی والسلیم، التی أودعها الله سبحانه فی ذات
الإنسان، سواء کان ذکراً أم أنثی. ولو أمعنا النظر وتدبّرنا فی مصدر الرقی والتقدم الحضاري لرأینا ذلک کله ینطلق من التنظیم الأسري
المتماسک. فالأسرة هی التی تحمل هویۀ المجتمع وسمات الأمۀ. ولو مثلناها بشکلٍ هرمیِّ لوجدنا أن الأب یمثل القمۀ، باعتباره
المسؤول عن رعایۀ وحمایۀ الزوجۀ -الأم- الرکیزة الثانیۀ للأسرة کمسؤولۀ عن رعایۀ وحمایۀ وتربیۀ الأولاد، فالرجل موظف بمعاملۀ
المرأة بلطف ورقّۀ، وهو مسؤول عن الإنفاق علیها والوفاء بحقوقها، حیث أن الرجل الأب یحتل موقع القیادة والقیمومۀ التی جاءت فی
قوله تعالی: الرِّجَ الُ قَوَّامُونَ عَلَی النِّسَآءِ، وهذه القیمومۀ لیست أمراً مفروضاً أو دخیلاً، بل إنها تجسید للفطرة والغریزة المنسجمۀ
وطبیعۀ التکوین الأسري، حیث تبعث علی الرضا والطمأنینۀ والسکینۀ بین أعضاء الخلیۀ الاجتماعیۀ الأولی. إن هذه القیمومۀ هی التی
تثیر الإحساس وتدفع بالرجل إلی التضحیۀ بأعز ساعات نومه وراحته، وإلی النهوض وظلمۀ اللیل لا تزال تخیّم علی الأفق، فتراه یخرج
فی البرد القارص وربما أثناء هطول المطر والثلج، طلباً للرزق ولقمۀ العیش، فی کد وکدح وبذل الجهد طیلۀ ساعات النهار، وهذا کلّه
انطلاقاً من الشعور بالمسؤولیۀ تجاه عائلته، فهو المحکوم أوّلًا وآخراً بتوفیر الرزق والأمن، وهما العاملان الأساسیان فی مصداقیۀ الحیاة
للأسرة.. وهذه الفطرة والسنّۀ الإلهیۀ لا تجدها مقتصرة علی ابن آدم، بل هی تعم معظم الکائنات الحیّۀ.. فالأمومۀ والأبوة تلحظها فی
سیرة جمیع الحیوانات ولو لمدة زمنیۀ محدودة. فالله سبحانه وتعالی قد ألهم الکائنات فطرة من شانها تنظیم واقع وشؤون الأسرة، ولا
یمکن بحال من الأحوال إلغاء هذا الإلهام السماوي والاستعاضۀ عنه بنحو آخر ببساطۀ، إذ الأمر لیس هیناً کما یتصور البعض، فالتغییر
والتبدیل القهري المناقض لفطرة الإنسان وطبیعته الغریزیۀ یکلّف فرضُه الکثیر من الخسائر، حیث تکون علی حساب کرامۀ الإنسان
وحریته. بل ویخرجه من عالم الآدمیۀ إلی دنیا أحط وأردأ من الحیوانیّۀ.
بین القیمومۀ والاستبداد
حینما سُنَّتْ القیمومۀ للرجل علی المرأة وکیان الأسرة عموماً، برز إلی جانب ذلک الفهم السلبیّ المتجسّد بالاستبداد، حیث یفرض
الرجل -علناً أو خُفیۀً- آراءه وأحکامه الصارمۀ الظالمۀ علی أعضاء أسرته. فالیونانیون القدماء اعتبروا المرأة مجرد آلۀ یستخدمها
الرجل. والهند لم یتصوروا المرأة إلاّ جزءاً حقیراً من الرجل؛ ینبغی القضاء علیه فور وفاة الرجل. والعرب قبل الإسلام اعتبروا الأنثی
عاراً لابد من دفنه ولمّا یري نور الحیاة بعد، تبعاً للجهل والعواطف البلیدة وضنک العیش وعدم الإیمان بالخالق الذي تکفّل بإیصال
الرزق إلی مخلوقه. ومقابل هذه الرؤي الضیقۀ الفاسدة والصناعۀ الفلسفیۀ الفاشلۀ وغیرها من التشریعات، جاءت النظرة الإلهیۀ والحکمۀ
الربانیۀ لتنسف روح الاستعلاء والسیطرة العنصریۀ، فاقتضت تلک الحکمۀ الحقّ أن تبرز بین فترة وأخري فتیات ونساء یرتفعن ویسمون
إلی منازل القدوة والنموذج الطیّب فی شتی الخصال الرفیعۀ، فتراهن مثال الشجاعۀ والصبر والمقاومۀ.
نماذج المرأة الصالحۀ
وإذا ما أشرنا إلیهن فبدأنا من عمق التاریخ والعصور الغابرة، فإن آسیا بنت مزاحم ثم مریم بنت عمران وأم المؤمنین خدیجۀ الکبري
سلام الله علیهنّ، ثم سیدّتهن وقدوتهن جمیعاً الطاهرة البتول والراضیۀ المرضیۀ فاطمۀ الزهراء سلام الله وصلواته علیها. فتري لماذا کان
هذا النور الإلهی الذي انبثق من صلب خاتم النبیین صلی الله علیه وآله فتجسد بشخص فاطمۀ الزهراء علیها السلام، وامتد فی حیاة
ووجود الرسالۀ، وکان رکناً أساسیاً فی بقائها إلی یومنا هذا؟ ولماذا کان عقب وذریۀ الرسول الأکرم المبارکۀ قد اقتصر علی ریحانته
الصدیقۀ الطاهرة المطهرة الزهراء سلام الله علیها، ولم یکن فی أحد أبنائه؟ إن الزهراء البتول وُلدت کبرعم تفتّح فی ربیع الحیاة، أو
کنسمۀ فوّاحۀ انسابت علی سهل الحیاة، أو کسحابۀ خیر هطلت فاهتزّت لها صحراء الوجود، أو کومضۀ سطعت علی آفاق العالم
المظلم، ذلک لأن الزهراء جزءٌ لا یتجزّأ من نور الرسالۀ، ورکن أساسی من الإیمان، حیث عاشت صلوات الله علیها کربیع عجّل
صفحۀ 20 من 36
انقضاؤه قیض الحقد اللئیم، لکنها -رغم ذلک- بقیت عطراً ممتداً وبرکۀ لا تنقطع، فهی بذرة الشجرة الطیبۀ التی أصلها ثابت وفرعها
فی السماء تؤتی أکلها کل حین بإذن ربها، وهی جوهر أهل البیت الطاهر الذي شاء الله له أن یکون مشکاة لنور یسطع وهّاجاً فی
ضمیر الزمن وعلی امتداد الدهور. وهذه الحکمۀ هی التی کانت وراء أن تکون الزهراء القدوة الأولی لنساء العالم لیقمن بوجه
الاستبداد والظلم وسلب الحقوق والإجحاف والتطاول الذي یتعرضن له من قبل الظالمین والمستبدین علی اختلاف أنواعهم
وأشکالهم. فلو کانت المرأة تتعرض للظلم الاجتماعی، ولم یکن بمقدور الزوج أو الابن أن یأخذوا لها حقّها، فما الذي تصنعه هذه
المرأة؟ هل تتخذ موقف الصمت فتتنازل وتقبل بالهزیمۀ؟ الجواب: کلا؛ لن یکون ذلک منها مادامت هناك فاطمۀ الزهراء علیها
السلام تقف علی قمۀ الزمن تتحدي وتصرخ بوجه الظلم والإنحراف، فهی القدوة التی وقفت تطالب بحقها؛ لا طمعاً بما ینطوي علیه
هذا الحق، بل لمجرد کونه حقّاً، حیث لا ینبغی لها أن تسکت، وکانت مطالبتها تلک - من ناحیۀ أخري- درساً لکل الأجیال، لا سیما
الشطر النسوي منه. فالزهراء علیها السلام دخلت الساحۀ السیاسیۀ مدافعۀ عن فدکها الذي کان یتضمن فی حقیقۀ الأمر الدفاع عن الإمام
علی علیه السلام ومجمل التراث النبوي الشریف، فهی دافعت فی الواقع عن أحقیّۀ أهل البیت فی تولی قیادة الأمۀ، إنها نزلت إلی
المعترك رغم المصائب الجسدیۀ والنفسیۀ التی تعرضت لها وهدّت قواها، فقد تراکم علی قلبها هموم الأیام بفقدانها أباها النبی
الأکرم، فعاشت فی تلکم الأیام بعد رحیل النبی وهی تري تراثه نهباً یتلاقفه القوم، وهی تري زوجها الذي قام الإسلام بجهوده الجبّارة،
تراه یضطهد ولا من مدافع، وتري الإمامین السبطین الحسن والحسین علیهما السلام لا حول ولا قوة لهما فی إصلاح ما أفسدته
الجاهلیۀ الثانیۀ التی اختلقها الطامعون. إنها رغم کل ذلک تقف شامخۀ کالطود العظیم تدافع عن الحق والحقوق المهدورة؛ تلقی
بالحجج البالغات والدلائل الدامغات وتشهّدُ من شاهد وشهد، تدافع عن القضیۀ التی کانت فدك عنواناً ومفتاحاً لها. وجذوة القول؛
إن المهم فی سیرة الزهراء سلام الله علیها هو تصدّیها بنفسها للدفاع عن الحق، فهو -الدفاع- قیمۀ إلهیۀ عظمی، وهو قمۀ الخلق السامی
والرفعۀ الإنسانیۀ. ومن هذا کله تتجلّی أمام أنظارنا الحکمۀ الربانیۀ القاضیۀ بأن تکون الصدیقۀ الزهراء هی العقب الطاهر والامتداد
الکریم لرسول ربِّ العالمین، فلم یکن من العبث بمکان أبداً أن یقول الرسول الأکرم": فاطمۀ أمَّ أبیها "وهو الذي لا ینطق عن الهوي
إن هو -نطقه- إلاّ وحیٌ یوحی. وهذا یعنی أن قیم ومفاهیم الرسالۀ کادت تتلاشی لولا وجود وجهود الزهراء، حیث أوضحت الحقائق
وکشفت عن خفایا الطمع والجاهلیۀ لکل ذي سمع ونظر وعقل.
درس من الزهراء
لعل النظرة إلی المرأة من منظار الجاهلیتین؛ الأولی والحدیثۀ قد تکون واحدةً، وهی نظرة التشاؤم والاستبداد، إلاّ أنهما تختلفان فی
أسلوب التعامل معها. فالجاهلیۀ الأولی کانت تدفع بالرجل للتخلص من المرأة باعتبارها نذیر شؤم له، فکانت المرأة تتعرض للوأد أو
التشرید أو الحرمان أو الاستعباد. أما الجاهلیۀ الثانیۀ المعاصرة فهی تتعامل مع المرأة علی أنها مجرد دمیۀ ووسیلۀ ترفیه، وکأنها خلقت
دونما کرامۀ واحترام وشخصیۀ. فهی إذا کانت فی الجاهلیۀ الأولی تستعبد فی خدمۀ الرجل، فهی الیوم لا همَّ لها إلاّ الاهتمام بمنظرها
وزینتها، وکل ذلک یصبّ فی مصلحۀ الرجل بصورة أنانیۀ مباشرة أیضاً. فهی -حسب الجاهلیۀ الثانیۀ- لیست إلاّ سلعۀ عامۀ تجتذب
الرجال عن طریق عرض المفاتن، وبین هذا وذاك أضحت دون کرامۀ أو إنسانیۀ؛ فإمّا تراها فی حالۀ إشباع الغرائز الرخیصۀ، وإما
تراها فی حالۀ الانتقام الوحشی من ذلک الاستغلال البشع. ولکننا نري الزهراء سلام الله علیها تجیب عن التساؤل عما هو خیر للمرأة،
فتقول": خیر لهن أن لا یرین الرجال ولا یرونهن [" 31 ] أي أن علی المرأة أن تصون کرامتها وعزتها بما استطاعت من العفاف. لا
شک فی أن أعظم دورٍ وأفضل نشاط تقوم به المرأة بحیث ینسجم وطبیعتها التکوینیۀ والنفسیۀ، هو ما تؤدّیه فی محیط بیتها وأسرتها.
یشاطرنا فی ذلک کل منصف لم یتأثر بأبواق الدعایۀ المفسدة، ولم ینجرف مع التیارات المنحرفۀ التی ترید للمرأة الضیاع فی عوالم
الانحلال والفساد. ویعتقد الکثیر منّا أن الرجل هو الخیمۀ، وهذا هو ظاهر الأمر، ولکننی اعتقد بأن المرأة هی عمود هذه الخیمۀ، وهی
صفحۀ 21 من 36
المحور الذي تلتفّ حوله الأسرة وینجذب نحوه أعضاؤها. فالمرأة - علی هذا الأساس -تمثل مرکز انسجام الأسرة، بینما الرجل یأخذ
منصب الراعی والحامی والمدبّر والمسؤول عن توفیر ضرورات العیش والاستمرار. وإذا کان لیس خافیاً تأثیر الأم علی أولادها من
حیث التربیۀ والرعایۀ العاطفیۀ والتنمیۀ الإنسانیۀ، فإنه لابد من الإشارة إلی قضیۀ لا تقل أهمیۀ عن ذلک، وهی تاثیر الأمّ علی جنینها
الذي هو فی بطنها، وقد فصّل العلم الحدیث مصداقیۀ قول الرسول الأعظم محمد صلی الله علیه وآله وسلم، حیث قال": السعید من
سعد فی بطن أمه والشقی من شقی فی بطن أمه [" 32 ] نظراً إلی ما تترکه الأم من آثار لا تنکر علی جنینها، وهو خاضع بصورة مباشرة
منذ کونه نطفۀ فی الرحم وحتی بلوغه الخامسۀ عشرة من عمره علی أقل التقادیر، مما یحمل المرأة علی ضرورة وعی موقعها ومکانتها
تجاه أسرتها، ویحملها أیضاً علی النهوض بمستواها العاطفی والثقافی حتی تکون فی موضع یؤهلها لتکون مرکزاً ومحوراً لحرکۀ
أسرتها. ولیس بخافٍ علی أحد من المسلمین أن فاطمۀ الزهراء سلام الله علیها کانت الرمز الأوضح فی النبل والعفۀ والطهارة، حتی
أنها استطاعت عبر ذلک إنجاب ذریۀ کالإمامین الحسن والحسین وزینب علیهم السلام، وکفاها بذلک فخراً، وکفاهم بأمّهم فخراً،
حیث حفظ الإسلام بوجود وجهود هذا البیت الطاهر.
الزهراء محور بیت الرسالۀ
اشاره
فِی بُیُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَیُذْکَرَ فِیهَا اسْمُهُ یُسَ بِّحُ لَهُ فِیهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ، رِجَالٌ لاَّ تُلْهِیهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَیْعٌ عَن ذِکْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ
وَإِیتَآءِ الزَّکَ اةِ یَخَ افُونَ یَوْماً تَتَقَلَّبُ فِیهِ الْقُلُوبُ وَالَابْ َ ص ارُ، لِیَجْزِیَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَیَزِیدَهُم مِن فَضْ لِهِ وَاللَّهُ یَرْزُقُ مَن یَشَآءُ بِغَیْرِ
حِسَابٍ، وَالَّذِینَ کَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ کَسَرَابٍ بِقِیعَۀٍ یَحْسَبُهُ الظَّمْاَنُ مَآءً حَتَّی إِذَا جَآءَهُ لَمْ یَجِدْهُ شَیْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِیعُ
الْحِسَابِ، أَوْ کَظُلُمَاتٍ فِی بَحْرٍ لُجِّیٍّ یَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُ هَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَآ أَخْرَجَ یَدَهُ لَمْ یَکَدْ یَراهَا
40 ) من المؤکد انّ الله تبارك وتعالی قد خلق الخلق برحمته، وأنّ رحمۀ الله هی - وَمَن لَّمْ یَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ (النور/ 36
الغایۀ والهدف الذي تتکامل عنده معالم الخلق. فتري ما هی هذه الرحمۀ؟ وأین هی؟ وکیف تجلت؟.. حینما أراد الله جلّ وعلا ان
یزیح الظلمات عن الأرض خلق شمساً مضیئۀ وقمراً منیراً. وحینما أراد ان یسقینا ماءً خلق السحاب وجعلها وسیلۀ لذلک. وحینما أراد
ان یرسی الأرض علی قواعدها خلق الجبال. والمقصود مما تقدم؛ ان ربنا سبحانه حینما یرید شیئاً فهو یهیء أسبابه، فما هی أسباب
ووسائل الرحمۀ؟ وأین هی؟ وبصراحۀ مطلقۀ أقول: ان أسباب الرحمۀ هی محمد وآل محمد صلوات الله علیهم أجمعین، إذ أن الله لما
أراد أن یرحم العباد شاء أن تتجلی فیهم رحمته، فخلق أنواراً جعلها بعرشه محدقۀ؛ تسبّح وتهلّل وتکبّر، ثم خلق من هذه الأنوار
السماوات والأرض والملائکۀ، وهلّلت الأنوار فهلّل معها کل شیء، وسبّحت فسبح معها کل شیء، وخلق الله الجنۀ من الأنوار المحیطۀ
بالعرش، فجعلها الله وسیلۀ رحمته، وکما قال النبی الأکرم صلی الله علیه وآله وسلم": إنما أنا رحمۀ مهداة [" 33 ] وعلیه فلا فرق لدینا
فی ان یقول القائل: اللهم ارحمنی برحمتک، أو: اللهم ارحمنی بمحمد وآل محمد، فالنبی وآله هم رحمۀ الله وهدف الخلق.
فاطمۀ الزهراء هی المحور
جاء فی سورة النور المبارکۀ: اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالَارْضِ مَثَلُ نُورِهِ کَمِشْکَاةٍ فِیهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِی زُجَاجَۀٍ الزُّجَاجَۀُ کَاَنَّهَا کَوْکَبٌ
دُرِّيٌّ یُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُبَارَکَ ۀٍ زَیْتُونَۀٍ لاَّ شَرْقِیِّۀٍ وَلَا غَرْبِیَّۀٍ یَکَادُ زَیْتُهَا یُضِ یءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَ سْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَی نُورٍ یَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن یَشَآءُ
وَیَضْرِبُ اللَّهُ الَامْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِکُلِّ شَیْءٍ عَلِیمٌ
انهم عباد مکرمون
صفحۀ 22 من 36
إن الله سبحانه وتعالی حینما یستعرض من خلال القرآن واقعاً معیناً او قصۀ تاریخیۀ إنما یرید ان یذکرنا بعبرتها، ولعل العبرة من الآیات
المتلوة هی منع الناس دون ان یخیّلوا لأنفسهم بأن النبی وأهل بیته لهم ذاتیۀ، او کونهم آلهۀ صغار -والعیاذ بالله-. فهم بدورهم
یسبحون الله اکثر من غیرهم، واذا کان الجهل والغفلۀ أمرین طبیعیین فی الإنسان، فإن الله بعد الإشارة الی عظمۀ هذه البیوت
وأوحدیتها فی التاریخ یعطف علیها بقوله المجید: وَ یُذْکَرَ فِیهَا اسْمُهُ یُسَ بِّحُ لَهُ فِیهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ، رِجَالٌ لاَّ تُلْهِیهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَیْعٌ عَن
ذِکْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِیتَآءِ الزَّکَ اةِ یَخَ افُونَ یَوْماً تَتَقَلَّبُ فِیهِ الْقُلُوبُ وَالَابْ َ ص ار. ان المعادلۀ ثابتۀ کل الثبات؛ فکما أن الإنسان ینام
باطمئنان بالغ اذا ما کان بیته خالیاً مما یثیر طمع السراق، او انه لا یطبق له جفن إذا کان فی بیته الأموال الطائلۀ. کذلک کلما تضاعفت
رحمۀ الله علی الإنسان، کلما خشی من فقدانها او التفریط بها اکثر. ولان رحمۀ الله قد تجلت فی النبی وأهل بیته علیهم السلام،
فخشیتهم من الله اکثر، لانهم مع ثقتهم بالله لکن معرفتهم بالله اکبر، ولذلک فخشیتهم منه اکثر. فالله تعالی یقول: إِنَّمَا یَخْشَ ی اللَّهَ مِنْ
عِبَادِهِ الْعُلَمَآءُ (فاطر/ 28 ) نبینا هو نبی الرحمۀ، وامیرنا قسیم الجنۀ والنار، وسیدة نساء العالمین شفیعۀ الأمۀ، ولکنهم یخافون یوماً تتقلب
فیه القلوب والأبصار، خوفاً یدفع بهم الی الطاعۀ المطلقۀ، والابتعاد عن الذنوب. وهذا الإحساس بالخوف والعصمۀ المتکرسۀ لدیهم هو
الأمر المتناسب تماماً مع ما سیجزیهم الله من حسن الثواب وما سیزیدهم من رزقه غیر النافذ ابداً. اما الذین لا نور لهم، فلا یمکن ان
یکون لهم من الحظ شیئاً، قال الله تعالی: وَالَّذِینَ کَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ کَسَرَابٍ بِقِیعَۀٍ یَحْسَبُهُ الظَّمْاَنُ مَآءً حَتَّی إِذَا جَآءَهُ لَمْ یَجِدْهُ شَیْئاً وَوَجَدَ
اللَّهَ عِندَهُ فَوَفّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِیعُ الْحِسَابِ، أَوْ کَظُلُمَاتٍ فِی بَحْرٍ لُجِّیٍّ یَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُ هَا فَوْقَ
بَعْضٍ إِذَآ أَخْرَجَ یَدَهُ لَمْ یَکَدْ یَراهَا وَمَن لَّمْ یَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ وفی ذلک إشارة واضحۀ الی أهمیۀ انتباه المسلم وضرورة
محاولته الحصول علی النور من مصدره الحقیقی والصحیح، وهو مدرسۀ أهل البیت علیهم السلام. ولذة الحصول علی النور ما بعدها
لذة ولا اروع منها، اذ هی منتهی الرغبات وغایۀ الغایات.
مسؤولیتنا تجاه اهل بیت الرسالۀ
ویقفز الی السطح سؤال ملح جداً؛ والإجابۀ علیه علی درجۀ بالغۀ من الخطورة: ما هی مسسؤولیتنا تجاه هذا النور والرحمۀ الإلهیۀ وأهل
بیت الرسالۀ؟ وبعد مزید من التفحص یبدو إن الإجابۀ تکمن عبر تأدیۀ ثلاث مسؤولیات جسام، ومن دون اداء هذه المسؤولیات لن
ینفع الإنسان ما یعمل، نظرا لانه سیعمل دون عقیدة صحیحۀ أو قلب سلیم. المسؤولیۀ الأولی: التسلیم بحق ومنزلۀ أهل البیت علیهم
السلام، وهذا یستدعی تطهیر نفوسنا من أمراض الضغینۀ والحسد والکبر. ان البعض من المسلمین یحاول برأیه الشخصی الصادر عن
غیر تفکر وإخلاص وحسن نیۀ، بل یسعی البعض الی تجییر وقولبۀ العقیدة الإسلامیۀ، ولو فی الأصول المتفق علیها -حسب ما تملیه
علیه رغباته ومصالحه وما وجد علیه آباءه- والأخطر من ذلک وأدهی ان بعض من یحشر نفسه فی صف الموالین لفاطمۀ الزهراء
وأهل البیت یحاول بطریقۀ أو أخري ان یحذف أو یختصر بعض الأحادیث مداهنۀ لأعداء الدین، أو جهلًا بعلم الحدیث والتفسیر،
فضلًا عن عدم إلمامه بفصول اللغۀ والبلاغۀ التی هی العنوان الأول فی شکل وصورة الروایات. ربنا سبحانه وتعالی یؤکد: وَالَّذِینَ
کَفَرُوا أَعْمَ الُهُمْ کَسَرَابٍ بِقِیعَۀٍ یَحْسَ بُهُ الظَّمْاَنُ مَآءً حَتَّی إِذَا جَآءَهُ لَمْ یَجِ دْهُ شَیْئاً وَوَجَ دَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِیعُ الْحِسَاب
فالاعتقاد السلیم هو الأساس فی العمل الصالح، ومن دونه سیکون العمل مهما کانت صورته صالحۀ وجمیلۀ سراباً لا حقیقۀ له، بل
الباطل والانحراف والخیال هو الأساس فی خداع الإنسان وإضلاله، حتی یفاجأ بمصیره المحتوم، إذ یلقی الله من دون أي رصید
حقیقی صالح. وما اتعس الإنسان واحقر به ان یستمر فی حیاته علی أساس کذبۀ تاریخیۀ کبري تؤدي به فی نهایۀ المطاف الی
السقوط فی مهاوي جهنم وبئس المصیر.. فأن یمشی المرء بطیئاً ویصل الی هدفه فی الآخرة، خیر من ان یسابق الریح والزمن ولکنه
یسیر فی الانحراف ولا یصل الاّ الی ما یکره، وکما تقول الروایۀ الشریفۀ عن أبی عبد الله عن آبائه عن أمیر المؤمنین علیهم السلام
. [ جمیعاً قال: سمعت رسول الله صلی الله علیه وآله یقول: علیکم بسنۀ، فعمل قلیل فی سنۀ خیر من عمل کثیر علی بدعۀ. [ 34
صفحۀ 23 من 36
المسؤولیۀ الثانیۀ: لکی لا یکون ولاؤنا وارتباطنا بأهل البیت، وبالأخص منهم سیدة نساء العالمین ولاءً وارتباطاً هامشیاً او مجرد حلم،
لابد ان نعی مقامها وحقها ودورها فی العقیدة الإسلامیۀ، فإنه لا یکفی مجرد معرفۀ انها بنت الرسول او زوجۀ الوصی او ام الأئمۀ؛
فالمعرفۀ الواقعیۀ بفضل فاطمۀ الزهراء وبقیۀ آل الرسول هی العامل المکرّس للتسلیم بأمرهم. المسؤولیۀ الثالثۀ: الاتباع والاقتداء بسیرة
فاطمۀ الزهراء علیها السلام. فنحن اذا نظرنا الی تفاصیل ملحمۀ مطالبتها بفدك نظرة واعیۀ فستکون أمامنا من الدروس والعبر ما لا
حصر لها. فهی أولًا لم تتقاعس عن مطالبتها بحقها او استعراض مظلومیتها، رغم ان الظروف الاجتماعیۀ والسیاسیۀ والصحیۀ التی ألمت
بها کانت صعبۀ للغایۀ. وهی فی طریقها الی المسجد لمباهلۀ الخلیفۀ الأول التزمت - بما للکلمۀ من معنی - بشروط العفّۀ والشرف،
وضربت بذلک أروع مثال لجمیع نساء العالم.. ومهما یکن؛ فان سورة النور التی ترسم صورة الأسرة المسلمۀ الفاضلۀ، وتحدد نوعیۀ
العلاقۀ بین الزوجۀ أو الام ببقیۀ أفراد العائلۀ، إنما هی تبین فضیلۀ فاطمۀ الزهراء سلام الله علیها. ولا یخفی ان فاطمۀ الزهراء سلام الله
علیها کانت المحور لأسرة آل الرسول، فهی البنت والزوجۀ والام لخیر خلق الله. کما ان علاقۀ هذه الحوراء الإنسیۀ بالنساء وتأثیرها
الإیجابی علیهن کان قمۀ فی الأداء والروعۀ. فهی کانت تحدثهن حول الفضیلۀ والعلم ومنزلۀ العلماء، حتی تزیل الحواجز بینها وبینهن
فیستزدن منها المعرفۀ والإجابات التفصیلیۀ علی کل ما یشکل عندهن. ولا یغیب عنا؛ اننا اذا سمعنا قول الله تعالی: ولَکُمْ فی رَسُولِ الله
أسْوَة حَسَ نَۀ فذلک یعنی؛ کما لکم فی رسول الله أسوة حسنۀ، کذلک فی فاطمۀ وبعلها وبنیها، لإنهم کلهم نور واحد. وعلیه یجب ان
نتأسی بهم، ونتبع خطاهم، ونقتدي بهدیهم.. وبذلک نحاول ان نتمثل أشخاصهم وسلوکهم فی حیاتنا، لأن سلوکهم وسیرتهم
وکلامهم حجۀ علینا. هکذا تجلت الرحمۀ الإلهیۀ فی شخصیۀ فاطمۀ الزهراء وأبوها وبعلها وبنوها علیهم صلوات الله أجمعین. غیر ان
ما یؤسف علیه ان المسلمین لم یؤدوا حق هذه الرحمۀ، الی درجۀ ان بعض أهل العلم؛ بعض الکتّاب؛ بعض الخطباء.. راح یشیع ان
المصائب التی جرت علی أهل بیت الرسالۀ والتی تذکرها کتب التاریخ والتی یرویها الخطباء ویحررها الکتّاب، إنما هی مبالغ فیها.
فحسب قول أحدهم: هل من المعقول ان یأتی من یجمع الحطب علی باب بیت فاطمۀ علیها السلام ویضرم فیه النار؟ هل من المعقول
ان یفتحوا باب بیت فاطمۀ علیها السلام عنوة ویعصروها خلف الباب؟ هل من المعقول انهم بفعلهم هذا اسقطوا جنینها؟ هل من
المعقول انهم تجرأوا علی ضرب فاطمۀ علیها السلام علی مرأي من المسلمین؟.. لماذا نستبعد ذلک، وقد نشاهد بأم أعیننا الیوم أعداء
أهل البیت کیف عمدوا الی هدم قبورهم فی المدینۀ المنورة، وکیف یحجبون الناس عن مرقد النبی صلی الله علیه وآله ویمنعون
الناس من الدنو من مراقد الأئمۀ المعصومین فی البقیع؟؟ وبصراحۀ أقول: ان ما ذکره المؤرخون لنا من مظلومیۀ أهل البیت علیهم
السلام، وما جري علیهم من اضطهاد لیس إلاّ نزر یسیر، وما اخفوه اکثر من ذلک واعظم بکثیر. وذلک خشیۀ من سطوة الطغاة
الحاکمین، وطمعاً بالدنیا وملذاتها.. وعلی هذا یجب ان نحذر الوساوس الشیطانیۀ، وان نجعل مظلومیۀ هذه السیدة الجلیلۀ الزهراء
البتول وأهل بیت العصمۀ علیهم السلام -سواء فی الماضی او فی الحاضر- منطلقاً الی التمسک بخطها الاسلامی الاصیل وجعلها نبراساً
لإیماننا ومیزاناً دقیقاً لعقیدتنا.
الزهراء قدوة و رمز
اشاره
فاطمۀ الزهراء علیها السلام، هی تلک الصدیقۀ التی کانت سراجاً منیراً تجلی فیه نور الرسالۀ عبر والدها العظیم النبی محمد بن عبد الله
صلی الله علیه وآله. وما اجدرنا ونحن نمتلک فی تاریخنا هذه القدوة المثلی ان نقارنها بواقع المرأة الیوم. فنحن نعیش الآن أزمۀ
أفرزتها الجاهلیۀ الجدیدة التی تکاد تحطم البشریۀ، وتسحق کرامتها؛ ألا وهی مشکلۀ المرأة التی تحولت الی مشکلۀ حادة من مشاکل
العصر. ان هناك فی عالم الیوم منظمات ومؤسسات تدعو الی ما تسمّیه ب (حقوق المرأة)، فی حین إنها -فی الواقع- لا تدعو إلاّ الی
صفحۀ 24 من 36
تفوق الرجل علی المرأة، وإطلاق ید الوحشیۀ الذکریۀ ضد ضعف الأنثی. هذه الوحشیۀ التی تبدّد الیوم کل طاقات الإنسان. قبل
خمسین عاما لم یکن یخطر علی بال احد بأن من الممکن ان تکون النوایا الحقیقیۀ لدعاة حقوق المرأة هی سحق کرامتها، والدعوة
الی اغتصاب حقوقها، وتحطیم کیانها.. ولم یکونوا یدرکون ان هذه الدعوة ما هی إلا دعوي شیطانیۀ تطلقها ابواق الضلالۀ والفساد فی
الأرض. بل لم یکونوا یعلمون ان وراء هذه المؤسسات أیادي صهیونیۀ ماکرة ترید ان تقوّض کیان المجتمعات، وتحولها الی قطعان
من الغنم تسوقها حیثما شاءت أهواءها. والیوم وبعد ان انجرفت الجاهلیۀ الحدیثۀ الی ما انجرفت الیه من حضیض الفساد والمیوعۀ
والانحلال الأخلاقی، والملایین من المشاکل الفردیۀ والاجتماعیۀ.. نستطیع الآن ان نقول وبکل قوة وثقۀ، ان تلک الدعوي لم تکن إلا
فخّاً لاصطیاد الکرامۀ والقیم، والإنسان والإنسانیۀ. وقبل ان نسلط الأضواء علی حقوق المرأة، لابد ان نوضح فلسفۀ وحکمۀ ضعف
المرأة أمام الرجل، وقیمومیۀ الرجل علیها، حیث قال الله تعالی: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَی النِّسَآءِ (النساء/ 34 ). ان الحکمۀ الرئیسیۀ، هی
الحاجات المتبادلۀ بین جنسین یتکاملان، لیکملا مسیرة الحیاة عبر التربیۀ الحضاریۀ التی تتوارثها الاجیال. والحکمۀ فی هذه
(التکاملیۀ) معروفۀ. فقد خلق الله عز وجل الکون بحیث یعکس کل شیء فیه الدلالۀ علی انه هو الحی القیوم الغنی بذاته. فالحکمۀ
هی التعاون بعد التعارف، وهذه الحکمۀ هی التی أودعت الحاجۀ المتبادلۀ بین الرجل والمرأة. ففی کل تجمع صغیراً کان ام کبیراً
هناك حاجۀ الی اختیار رجل کقائد له، وبإمکانه ان یتحمل الواجبات والمسؤولیات المضاعفۀ. ولذلک فان هناك ضعفا طبیعیا فی
المرأة امام الرجل، وهذا الضعف لابد ان نعترف به لنبدأ بمعالجته، ولنبدأ أیضا بتحدید الجانب القويّ، الذي من شأنه ان یتحول إلی
وسیلۀ للاعتداء علی الجانب الضعیف.
احترام الضعیف سر التحضر
إن احترام الإنسان الضعیف هو سرّ کلّ تحضّر وتقدّم فی التأریخ. فالحضارة التی تحترم القوي لقوته، وتسحق الضعیف لضعفه وعجزه
لیست بحضارة. فلیس متحضرا ذلک الإنسان الذي یحترم القويّ، بل ان الإنسان المتح ّ ض ر هو الذي یکن الاحترام ویشفق علی
الضعیف، ویحاول أن لا یعتدي علیه سواء کان متمثلا فی المرأة، أو الیتیم، أو أي إنسان مستضعف. وهکذا فان المجتمع المتمدن هو
المجتمع الذي یکون الضعیف فیه محترماً، والمظلوم منصوراً حتی یؤخذ له بحقه. ومن ضمن الحقوق التی یجب ان یحترمها المجتمع
حقوق المرأة؛ هذه الحقوق التی یجب ان تؤخذ من الرجل القوي الذي قد یفرض إرادته علیها، وهنا تأتی التشریعات والقوانین
والأخلاق الإسلامیۀ لتأخذ للمرأة حقها من الرجل. ومن حقنا ان نتساءل فی هذا المجال: من الذي یأخذ حق المرأة من الرجل، ومن
الذي یستطیع ان یکبح جماح اعتداء الرجل علی المرأة، سواء کانت أختاً أم زوجۀ؟ للجواب علی هذا التساؤل نقول: أن هناك ثلاث
قوي بإمکانها أن تأخذ حق المرأة من الرجل، وهی: 1- القانون. 2- العقل. 3- قوة المرأة التی هی القوة الأهم. أن المرأة القویّۀ
تستطیع ان تأخذ حقها من الرجل، وان لا تدعه یغتصب هذا الحق منها. فالإسلام لا یوصی الرجل باحترام المرأة فحسب، ولا یوصی
المجتمع باعطائها المنزلۀ اللائقۀ بها، ولا یکتفی بأن یأمر الرجل باحترام والدته، بل انه یمنح قبل ذلک المرأة القدرة والهیبۀ والصلابۀ
والإرادة القویۀ لکی تأخذ حقها من الرجل. وهذا هو المهم. فالإسلام یجعل الإنسان مؤمناً بقواه وقدراته، واثقاً من نفسه، وذلک من
خلال طرح القدوات الصالحۀ أمامه، والتی تجعله یؤمن بقدراته. ففی التأریخ نري أن الأنبیاء علیهم السلام کانوا من البشر، وهذه
الظاهرة تدفعنا الی التساؤل: لماذا لم یبعث الله تبارك وتعالی أنبیاءه من الملائکۀ؟ ولماذا یؤکد تعالی علی أن النبیّ لابد أن یکون من
البشر؟ إنما لکی یکون قدوة، ولذلک تأتی الآیات القرآنیۀ الکریمۀ مؤکدة هذه الحقیقۀ، کقوله تعالی: قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِثْلُکُمْ یُوحَی
إلَیَّ (الکهف/ 110 ). وهذا التأکید المتوالی دلیل علی أن بشریۀ الرسول هی قضیۀ مقصودة، والسر فی ذلک هو لکی یتغلب الإنسان
علی أهواء نفسه من خلال الاقتداء بالصدیقین والأولیاء والصالحین، الذین تغلبوا علی طبیعتهم البشریۀ وما فیها من عناصر وعوامل
الضعف، فاقتحموا العقبات وقاوموا المشاکل واستسهلوا الصعاب وضحّوا بأنفسهم.. وعندما یري الإنسان کل ذلک، تنبعث فی نفسه
صفحۀ 25 من 36
الشجاعۀ والإرادة القویۀ. وفاطمۀ الزهراء علیها السلام هی قدوة المرأة. هذه القدوة التی تدفعها الی ان تناهض أولئک الذین
یریدون اغتصاب حقوقها، والاعتداء علی حرماتها؛ والذین قد تکاثروا فی العصر الحدیث. ان الدعاة المزیفین لحقوق المرأة قالوا:
إنها لابد من ان تشارك الرجل فی جمیع أعماله، وهذا یعنی فی رؤیتهم ان تکلّف المرأة بما لا تطیقه من الأعمال الصعبۀ المجهدة.
ثم قالوا بعد ذلک ان من ضمن حقوق المرأة ان تخرج متبرّجۀ سافرة الی الشوارع والأسواق، وعندما خرجت کذلک کان المستفید
هو الرجل وشهوته.
الحضارة الغربیۀ والتفسخ الأخلاقی
ونتیجۀ هذا التوجه، ونتیجۀ للانفلات والانحلال الخلقیین السائدین فیه، فان هناك إحصائیات تؤکد ان ما یقرب من ( 15 ) ملیون امرأة
قد اغتصبن بالقوة فی الولایات المتحدة الأمیرکیۀ. وهذا یعنی ان المرأة فی الغرب قد تحولت الی سلعۀ رخیصۀ! تري ما هذا التوحش
الذي راحت ضحیته المرأة الیوم فی ظل ما یسمونه بالحضارة؟ إن المرأة أصبحت منبوذة وخصوصا عندما یتقدم بها السنّ، حیث تنقل
الی دور العجزة لتجرّ حسراتها هناك، وتعانی من الوحدة، وتموت فی آلامها. وفی مقابل ذلک نري ان الإسلام یوصی بالأم ثلاث
مرات قبل ان یوصی بالأب، کما ویوصی بالإنسان الطاعن فی السنّ معبّرا عنه انه کالنبیّ فی قومه. کما ان الإسلام یعطی الکثیر من
الحقوق والامتیازات للمرأة؛ فالزواج بیدیها وهی التی تملک أن ترفض الزواج إذا کان لا یوافق مصلحتها، کما أن لها حق تعیین
المهر، ولها الحق أیضاً فی أن تحتفظ بولدها لفترة طویلۀ فی حالۀ الطلاق لانها أم، والإسلام أوصی بالأم قائلًا ": الجنۀ تحت أقدام
الأمهات [" 35 ] . وبالإضافۀ الی ذلک فقد أکد الإسلام علی ان تکون المرأة مصونۀ، لکی لا تذهب ضحیّۀ النزعۀ الوحشیۀ لدي بعض
الرجال. وذلک من خلال جعلها سیدة الموقف بإرادتها، لان المرأة التی تترك المساهمۀ فی الحیاة، وتنبذ مسؤولیاتها جانبا، عندئذٍ لا
تلبث أن تتحول الی قمر یدور فی فلک الآخرین. ومثل هذه المرأة لا قیمۀ لها، لان من المفترض فیها ان تتحمل المسؤولیۀ فی جمیع
الاوامر والواجبات الشرعیۀ باستثناء الحالات المنصوص علیها شرعا. ولذلک فان القرآن الکریم لایوجّه خطابه الی الرجل فحسب، بل
یقول": یا ایها الناس "... و" یا أیها الذین آمنوا "... لکی یشمل هذا الخطاب کلا من الرجل والمرأة. فالمرأة مطالبۀ بأداء کل
الواجبات من خلال تزوید نفسها بالإرادة التی من الممکن ان تستوحیها من نساء عظیمات مثل فاطمۀ الزهراء علیها السلام هذه المرأة
التی تعتبر المثل الأعلی للتربیۀ القرآنیۀ، والقدوة المثلی للمرأة المسلمۀ.
تجلی الرسالۀ فی النساء
وکما أن الرسالۀ قد تجلت فی الرجال، وخصوصاً فی رسول الله محمد صلی الله علیه وآله، الذي کان خلقه القرآن، وکان المجسّ د
للرسالۀ. فان هذه الرسالۀ قد تجسّدت أیضاً فی النساء، وفی مقدمتهنّ شخصیۀ سیدتنا فاطمۀ الزهراء علیها السلام، التی عاصرت
الإسلام منذ أیامه الأولی، وهی فی بیت الوحی. وکان رسول الله صلی الله علیه وآله هو معلمها الأول. لذا لم تنته الزهراء علیها السلام
فی شخصیتها، بل امتدت عبر ذریتها الطاهرة.. صحیح ان المرأة المسلمۀ یفصلها الیوم عن فاطمۀ علیها السلام أربعۀ عشر قرنا، ولکن
سیرتها الوضاءة تستطیع ان تلهمها وان تکون مدرسۀ لها. وسنقوم فیما یلی بعرض جوانب بسیطۀ من عظمتها وشموخها اللذان
استمدّتهما من عظمۀ وشموخ الرسالۀ الإلهیۀ. فرسول الله صلی الله علیه وآله الذي فقد حنان الأم وعطف الأب منذ سنّ مبکّرة من
عمره الشریف، کان یحسّ بهذه العاطفۀ المفقودة فی حیاته، لأنه بشر کسائر البشر کما یقول تعالی: قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِثْلُکُمْ. ولکنه
سرعان ماوجد هذه العاطفۀ المفقودة فی شخصیۀ ابنته الزهراء علیها السلام. لقد کان النبی صلی الله علیه وآله عندما یعود من صراعه
مع الجاهلیۀ، وعندما یفرغ من دعوته للمشرکین الی نبذ آلهتهم؛ کان صلی الله علیه وآله یسارع الی ابنته فاطمۀ التی کانت بدورها
تحوم حوله، لتحوط هذا القلب الکبیر بعاطفتها الجیاشۀ، ولتضمد جراحاته، وتسکن آلامه.. تماما کما کانت تفعل ذلک والدتها
صفحۀ 26 من 36
خدیجۀ الکبري رضوان الله علیها. وهذا ما دفع النبی صلی الله علیه وآله الی آن یقول": إن فاطمۀ أم أبیها [" 36 ] ، و"إن الله عز وجل
لیغضب لغضب فاطمۀ ویرضی لرضاها [" 37 ] . وفی خلال الحصار الذي ضربه المشرکون علی بنی هاشم فی شعب أبی طالب؛ فی
تلک الفترة الحرجۀ من حیاة الرسالۀ الإسلامیۀ لم تکن فاطمۀ تشعر بالخوف، رغم انها کانت فی سنّ مبکّرة من حیاتها، ورغم إنها
کانت قد فقدت والدتها فی تلک الفترة، ولکن صبرها الذي استوحته من قدرة التوکل علی الله تعالی وثقتها به، هذا الصبر کان
یمنحها الثبات والمقاومۀ والصمود. ومن الدروس التی نستطیع أن نستلهمها من حیاة فاطمۀ الزهراء علیها السلام، هو درس الفاعلیۀ
والنشاط. فلم یعرف عنها أنها قد توقفت عن هذا النشاط، ولو للحظۀ واحدة من حیاتها. فقد کانت تقضی لیلها فی العبادة والضراعۀ
والدعاء للمؤمنین، ونهارها فی مؤازرة والدها وزوجها، والقیام بمهام الرسالۀ سواء قبل الهجرة أو بعدها. ویا لیتنا نقتبس من هذه الشعلۀ
الإلهیۀ درس الصبر والجهاد والشجاعۀ والعطاء.. فان رکن هذه المرأة لم ینهّد رغم المصائب والآلام التی نزلت بها، والتی کانت فی
مقدمتها وفاة والدها وما جري علیها بعد ذلک من ظلم وإجحاف. فکان همّها الأول بعد ذلک الابقاء علی الخطّ الرسالی السلیم
والدفاع عنه، وعدم السماح بهبوط الروح الإسلامیۀ فی الأمۀ، ودخول عدد من المنافقین فی أوساطها. وفی حیاة الصدّیقۀ الطاهرة
فاطمۀ الزهراء دروس ودروس؛ فمن أراد أن یقتدي بها لابد له أن یتعرف علیها، وأن یعیشها فی واقعه.
الزهراء فی واقع المسلمین
اشاره